السبت، 26 سبتمبر 2015

أما الروايات والأشعار التي استدلّوا بها على كفر أبي طالب فهي كالآتي:



أ ـ استدلّوا بقول أبي طالب:
فوالله، لولا أن أجيء بسبة[42]***تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة***من الدهر جداً غير قول التهازل[43]
وقوله:
لولا الملامة أو حذارى سبة***لوجدتني سحاً بذاك مبيناً[44]
ويلاحظ على هذين القولين أنّه يجد الحرج في الإعلان عن إسلامه، ولكنه يؤكد بهما حقيقة إيمانه. ومن ثم كيف يقال: إنه مات على ما كان عليه قبل الإسلام؟
ب ـ واستدلّوا بما رواه ابن اسحاق من أنه(صلى الله عليه وآله) طمع في إسلام أبي طالب لمّا رأى منه قبل وفاته.
فجعل يقول له: «أي عم! قلها ـ أي كلمة التوحيد ـ استحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة فأجابه أبو طالب: يا ابن أخي! والله ـ لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أنني إنّما قلتها فزعاً من الموت، لقلتها، ولا أقولها إلاّ لأسرّك بها[45]، فلما تقارب الموت من أبي طالب; نظر العباس إليه فوجده يحرّك شفتيه، فأصغى إليه باُذنيه، ثم قال: يا ابن أخي! لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لم أسمع»[46] فهو هنا مؤمن، ولكنه يخاف ـ من إعلان إسلامه ـ السبّة على محمّد (صلى الله عليه وآله)وعلى بني أبيه.

ولعمري كيف يمكن أن يكون إسلام أبي طالب سبّة على محمد(صلى الله عليه وآله) وهو نبي الإسلام، الداعي إليه، متحملاً من الإيذاء في سبيله ما لا يقبل لغيره به، إذا أسلمنا جدلاً أنه يكون سبّة على بني أبيه؟ بل هل يدعو النبي الى ما فيه سبة عليه؟ وكيف يتصور أن يكون إسلام أبي طالب حينئذ سبّة على بني أبيه؟ وقد كان علي وجعفر وعمّهما حمزة، كلهم في ذلك الوقت مسلمين فعلاً بصورة علنية.
على أنه كيف يتصور أن يهتم العباس بأن يتابع شفتي أبي طالب حينئذ ، ويتسمّع إليه باُذنيه ليتأكد مما يقوله في شأن هذا الذي أمره به النبي(صلى الله عليه وآله). وهو لما يعرف عنه الإسلام بعد، والتاريخ يذكر أنه ظل على موقفه من الإسلام حتى شهد بدراً في صفوف المشركين، وكان من أسراها؟
وحينئذ ، كيف يتصور إذا كان إسلام أبي طالب سبّة على بني آباء محمد (صلى الله عليه وآله) ، أن يحقّق العباس هذه السبّة، فيقول للنبي(صلى الله عليه وآله): «يا ابن أخي! لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها» وكيف يتصور ـ إذا كان ذلك قد حدث فعلاً ـ أن يقول النبي(صلى الله عليه وآله): «لم أسمع» مع أنه هو الذي أمره أن يقولها، وأخبره عمّه بنطقه بها؟
ج ـ واستدلّوا أيضاً بما روي أن عليّاً(عليه السلام) جاء الى رسول الله(صلى الله عليه وآله)ـ حين مات أبو طالب ـ فقال: إن عمّك الضال قد مات، فقال: إذهب فغسّله وكفّنه وواراه[47] فكيف يتفق هذا مع ما سبقت روايته عن الإمام علي نفسه من أن أبا طالب ما مات حتى أعطى رسول الله(صلى الله عليه وآله)من نفسه الرضا؟ وإذاً فلابد أن تكون إحدى الروايتين مكذوبة أيضاً على علي(عليه السلام).
ولو سلّمنا جدلاً أن أبا طالب لم يعلن إسلامه قبل مماته، فهل يذكر أحد أنه لم يدع وسيلة لنصرة النبي(صلى الله عليه وآله) وحماية دعوته إلاّ واتبعها؟
وهل من كان هذا شأنه يستحقّ من ابنه المسلم، أن يقول عنه ـ حين مماته ـ لرسول الله: إن عمّك الضال قد مات؟!
أفلا كان يكفيه ، وهو ربيب النبي(صلى الله عليه وآله) ، والمنشأ على أخلاق الإسلام والمتربّي على عفّة اللسان أن يقول حينئذ: إن عمّك قد مات، دون أن يصفه بالضلال؟
وهل هذا من بر الوالدين الذي نزل به القرآن من مثل قوله تعالى: (وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتّبع سبيل من أناب إليّ)[48].
وعلى أساس ما تقدم ، نتساءل: الى أي مدى يمكن اعتبار ما نسب الى أبي طالب من الشعر ـ على تعارضه ـ دليلاً على أنه أسلم بالفعل أو لم يسلم؟
والى أي مدى يمكن اعتبار الروايات التي استعرضناها ـ على تعارضها فيما بينها أيضاً ـ دليلاً لهذا الفرض أو ذاك؟
لاشك أن النظرة الدقيقة الى الظروف التي أوحت بهذا الشعر أو ذاك أو بهذه الرواية أو تلك، والى البيئة النفسية التي انتجت كلاً منهما، والى التيارات السياسية التي تقاذفتها عبر قرون زاخرة بالتعصب المذهبي، الذي فرض نفسه على الأفكار والآراء على صعيد العالم الإسلامي كله، طولاً وعرضاً... كل ذلك ينبغي أن يكون في الاعتبار عند النظرة الى هذا الشعر أوذ اك، والى هذه الرواية أو تلك، عن إسلام أو عدم إسلام أبي طالب، الذي شاء له القدر ـ بلا نزاع من أي من الفريقين ـ أن يكون كافل النبي(صلى الله عليه وآله) وهو طفل، وراعيه وهو يافع، وحاميه عند مبعثه، حيث لم يكن له بين الناس حام سواه.
وإذا كان مما لا خلاف فيه أيضاً أن ما جرى لأهل البيت(عليهم السلام)خلال القرون المتوالية على الاُمّة الإسلامية من جحود وقطيعة ـ بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) ـ كان كفيلاً بأن يحول بين صفحات التاريخ وبين أن تخط فيها كلمة إنصاف يكتبها قلم، أو تنطقها شفتان، تثني عليهم أو تعترف بفضلهم.
فلقد كانت الحرب ـ ولا تزال بصورة أو باُخرى ـ معلنة عليهم في كل زمان ومكان. ولقد تعقّبوهم في النفس والولد والمال والسمعة، ولاحقتهم الأحقاد باللعن والسب والإساءة... وحلّ بهم التنكيل والتقتيل في كل مكان. ولم يكن عجباً ـ والحالة هذه ـ أن يتناولهم كثير من الكتّاب ، ورواة الأنباء والأخبار بما يستجيب ويتمشى مع النزعات السياسية والمذهبية المخالفة بما يثلبهم ويقدح فيهم، ويحرف الحقيقة في شأنهم، وأن يكون موقف ذوي الضمير من هؤلاء، وهؤلاء متمثّلاً في إهمال أمرهم، وعدم التعرض لذكرهم بسلب أو بإيجاب، خشية من أن ينالهم ما ينالهم من الأذى والنكال والعقاب، مما كان يحلّ بكل من اتّخذ الموقف الحق منهم. ولدينا في أحداث تاريخنا المعاصر، ما يمدنا بالأمثلة الصارخة والمتعددة، مما يحدث للمعارضين تجاه الحكّام.
ومن ثم فإذا تسرّب إلينا ـ من خلال هذا الحصار والإعصار ـ شيء من سيرتهم المضيئة، أو قبس من أقوالهم ومواقفهم المعبرة عن حقيقة الإسلام، أو شعلة من معالم سلوكهم الرشيد; فلاشك أنه حدث في غفلة من الطغاة وأعوانهم، وعلامة بارزة على أن العقيدة ـ حين تملك على الإنسان وجدانه وسلوكه ـ تدعوه أن يتحدى الأوضاع ، ليتغلب عليها بقدر الإمكان. وهذا هو الذي ظهر فيما بعد حتى أصبح مادة لما نقوله الآن.
لقد وصل إلينا ـ رغماً عن كل الموانع والعوائق ـ شعر يحدّثنا عن إسلام أبي طالب، منسوباً إليه، وروايات تاريخية تؤكد ذلك أنّه منه، أفلا يكون هذا مرجّحاً لما روي من هذا أو ذاك، على ما روي عن الجانب الآخر النافي لإسلامه؟
إن الأمر ـ حينئذ والحالة هذه ـ إن لم يرق الى رتبة الدليل، فإنه بلا شك لا ينزل عن مرتبة القرينة القوية التي تصل بانضمام غيرها من القرائن الى مرتبة الدليل القوي، والبرهان الجلي، دون أن يعنى هذا تهويناً من نسبة هذا الشعر الى أبي طالب، أو صحّة تلك الروايات بما فيها من دلالة صريحة على إسلامه، فقد ورد ذكرهما في كثير من الكتب والمراجع التاريخية المعترف بوثاقتها، وصحّة نقلها مثل: تاريخ ابن كثير، وسيرة ابن هشام، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ومستدرك الحاكم وغيرها.
ومن ثم فإننا نضم الى تلك القرينة القوية غيرها من القرائن الآتية، وسنجد أنها كلها يأخذ بعضها برقاب بعض، مؤكدة إسلام أبي طالب، حتى لا يبقى في ذلك مجال للشك، وذلك أنه من المعلوم أن رابطة الدين هي أقوى الروابط الاجتماعية، وأمامها تذوب بل تزول وتتلاشى سائر الروابط النسبية والسببية، أيّاً كان نوعها، وأيّاً كانت درجة كل نوع منها، حتى لقد يبلغ من قوة تأثيرها أن تدفع الأخ لأن يحارب ـ في سبيلها ـ أخاه، بل وابنه وأباه، وأنها تمنع التوارث بمجرّد اختلافها، وأن الولاء والتناصر يتحققان بين المتفقين فيها ، مهما تباعدوا نَسَبياً، أو تفاوتوا اجتماعياً.
ومن ثم لا يمكن أن يقال: إن رابطة القرابة كانت سبب نصرة أبي طالب لرسول الله(صلى الله عليه وآله)وحمايته له من أعدائه، تلك الحماية التي لولاها لما أمكن للدعوة الإسلامية أن تأخذ مسارها نحو الشيوع والانتشار، وإلاّ فقد كان أبو لهب أيضاً ـ وبنفس المقدار ـ جديراً بنفس النصرة والحماية ، فكلاهما عمّ لرسول الله ولكن أبا لهب على العكس من أبي طالب، فقد كان حرباً عواناً على محمد(صلى الله عليه وآله)وعلى دينه وأتباعه، بكل صنوف الحرب وأنواع الإيذاء[49].
د ـ حديث الضحضاح:
روى بعض الكتّاب مثل البخاري[50]، ومسلم عن رواة نظير سفيان بن سعيد الثوري، عبدالملك بن عمير، عبدالعزيز بن محمّد الدراوردي حديثاً نسبوه الى رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال عن أبي طالب(رحمه الله):
«وجدتُه في غمرات من النّار فأخرجته الى ضحضاح».
«لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيُجعل في ضَحضاح من النّار يبلغُ كعبيه، يغلي منه دماغُهُ»[51].
إنّ هذه الرواية وإن كانت تكذّبها عشرات الأحاديث والروايات الإسلامية، والدلائل القاطعة الساطعة ، وتثبت بطلانها وتفاهتها، ولكننا بهدف الوصول الى مزيد من التوضيح نعمد الى دراسة أمرين مرتبطين بهذا الحديث:
1 ـ ضعف أسناد هذه الرواية:
إنّ رواة هذه الرواية ـ كما أسلفنا ـ هم عبارة: عن سفيان بن سعيد الثوري، وعبدالملك بن عمير، وعبدالعزيز بن محمّد الدراوردي، الذين سندرس أحوالهم واحداً واحداً ـ في ضوء أقوال علماء الرجال، المعترف بهم عند أهل السنّة ـ فيما يلي:
أ ـ سفيان بن سعيد الثوري:
قال أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ـ وهو من علماء الرجال عند أهل السنّة ـ في سفيان الثوري : كان يدلّس عن الضعفاء[52].
إنّ هذا الكلام شاهد قوي على وجود التدليس عند الثوري، وعلى روايته عن الضعفاء، أو المجهولين، وهو وصف يُسقطه عن درجة الاعتبار.
ب ـ عبدالملك بن عمير:
قال عنه الذهبي المذكور: طال عمره وساء حفظه.
قال أبو حاتم: ليس بحافظ، تغيّر حفظه.
وقال أحمد: ضعيف يغلط .
وقال ابن معين: مخلط.
وقال ابن خراش: كان شعبة لا يرضاه، وذكر الكوسج عن أحمد بن حنبل: أنه ضعيف جداً[53].
فمن مجموع هذه العبارات، نعرف أن عبدالملك كان يتّصف بصفات عديدة، هي أنه:
1 ـ سيّء الحفظ.
2 ـ ضعيف.
3 ـ كثير الغلط.
4 ـ مخلّط.
ومن الواضح أن كل واحدة من الصفات المذكورة، كافية لأن تبطل الأحاديث التي يرويها عبدالملك بن عمير، والحال أنه قد اجتمعت جميع نقاط الضعف هذه في هذا الرجل.
ج ـ عبدالعزيز محمد الدراوردي:
وقد وصفه علماء الرجال عند أهل السنّة بالنسيان، وقلة الحفظ، فلا يمكن الاستناد الى مرويّاته.
فقد قال أحمد بن حنبل عنه: إذا حدّث من حفظه جاء بأباطيل[54].
وقال أبو حاتم عنه: لا يُحتَجُّ به[55].
وقال أبو زرعة أيضاً: سيّء الحفظ[56]. ومن مجموعة هذه العبارات يتضح بجلاء، أن الرواة الأصليين لحديث الضحضاح ضعفاء في غاية الضعف، الى درجة لا يمكن الاعتماد على شيء من مروياتهم.
2 ـ نص حديث الضحضاح يخالف الكتاب والسنّة
لقد نُسِب الى النبي(صلى الله عليه وآله) في هذه الرواية أنه أخرج أبا طالب من نار جهنم الى ضحضاح، وبهذا خفّف عنه العذاب، أو أنه(صلى الله عليه وآله)تمنّى أن يشفع له، فيخفِّف الله عنه العذاب، على حين نفى القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة تخفيف العذاب عن الكفار، كما ونفيا شفاعة أحد في حقّهم.
وعلى هذا الأساس فلو كان أبو طالب كافراً; لم يجز للنبي(صلى الله عليه وآله)أن يخفّف عنه العذاب، أو يتمنّى له الشفاعة في يوم الجزاء.
وبهذا يظهر بطلان محتوى حديث الضحضاح. وإليك فيما يأتي أدلة ما قلناه من الكتاب والسنّة:
ألف: القرآن الكريم:
قال تعالى:
(والّذين كفروا لهم نارُ جهنّم لا يُقضى عليهم فيموتوا ولا يُخفّف عنهم من عذابها، كذلك نجزي كلّ كفور)[57].
ب : السنّة النبوية:
إن السنّة النبوية تنفي أيضاً الشفاعة للكفّار، ونورد هنا من باب المثال بعض تلك الأحاديث.
1 ـ روى أبو ذر الغفاري عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال:
«اُعطيت الشفاعة وهي نائلة من اُمتي من لا يشرك بالله شيئاً»[58].
2 ـ روى أبو هريرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال:
«وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلاّ الله مخلصاً، وأنّ محمّداً رسول الله، يصدّق لسانه قلبَه، وقلبُه لسانَه»[59].
إن الآيات والروايات المذكورة تثبت بوضوح بطلان نص حديث الضحضاح عند من يقول: بأن أبا طالب مات كافراً.
ونتيجة البحث هي أن حديث الضحضاح لا أساس له من الصحة لا من جهة السند والطريق، ولا من جهة المتن والنص، ولا يمكن الاستدلال به على ما جاء في متنه من اُمور تخالف الكتاب والسنّة.
وبهذا ينهار أقوى دليل يستند إليه الزاعمون في عدم إيمان أبي طالب، وحينئذ لا تجد تأريخاً مستنداً يمكن أن يعارض ما دلّ على إيمان أبي طالب(عليه السلام)[60].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Disqus Shortname

Comments system

Ad Inside Post