السبت، 26 سبتمبر 2015

في رحاب :سيد البطحاء أبــو طــالـــب كافل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وناصره-3


الفصل الثالث

مستوى علاقة أبي طالب مع النبيّ(صلى الله عليه وآله)
استمر أبو طالب في رعايته المخلصة للنبي(صلى الله عليه وآله)، وكان يترقّبه ويتطلّع فيه المستقبل العظيم، وكان يشد أزره ولم يخذله أو يتخلّى عنه طرفة عين وكان يصطحبه في المهمات.
لم يمض أكثر من اثني عشر ربيعاً من عمر النبي(صلى الله عليه وآله) ، فأراد أبو طالب السفر الى الشام مع قافلة قريش التجارية، وحين كان يستعد للسفر وعند المغادرة أخذ النبي(صلى الله عليه وآله) فجأة بزمام الناقة التي كان يركبها عمّه وكافله أبو طالب، وبينما كانت عينا النبي(صلى الله عليه وآله) قد اغرورقت بالدموع قال:
«يا عم الى من تكلني، لا أب لي ولا اُم» .
ولمّا رأى أبو طالب عيني محمد(صلى الله عليه وآله) قد اغرورقتا بالدموع; تأثّر لهذا المشهد وقرّر من فوره ومن دون سابق تفكير في الموضوع أن يصطحب ابن أخيه محمداً(صلى الله عليه وآله) معه في هذه الرحلة. وقد شهد من النبي أثناء الطريق كرامات وخوارق حتى أنشأ في ذلك قصيدة:

إن ابن آمنة النبي محمداً***عندي يفوق منازل الأولاد[1]
فكّر أبو طالب في وضع محمد(صلى الله عليه وآله) المعيشي وضرورة أن يكون له عمل; فاقترح عليه العمل والتجارة بأموال خديجة بنت خويلد التي كانت امرأة تاجرة، ذات شرف عظيم ومال كثير تستأجر الرجال في مالها، أو تضاربهم إياه بشيء منه تجعله لهم.
قال أبو طالب للنبي(صلى الله عليه وآله): يا ابن أخي! هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها أكثر الناس، وهي تبحث عن رجل أمين فلو جئتها فعرضت نفسك عليها; لأسرعت إليك وفضّلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك.
ولكن إباء النبي(صلى الله عليه وآله) وعلوّ طبعه منعاه من الإقدام بنفسه على هذا الأمر من دون سابق عهد، ولهذا قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لعمّه : «فلعلّها ترسل إليَّ في ذلك».
فبلغ خديجة بنت خويلد مادار بين النبي(صلى الله عليه وآله) وعمّه أبي طالب، فبعثت إليه فوراً تقول له: إني دعاني الى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك، وأبعث معك غلامين يأتمران بأمرك في السفر.
فأخبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) عمّه بذلك، فقال له أبو طالب: «إن هذا رزق ساقه الله»[2].
لقد اُعجبت خديجة بعظمة فتى قريش وسموّ أخلاقه ومقدرته التجارية، حتى أنها أرادت أن تعطيه مبلغاً زيادة على ما تعاقدا عليه تقديراً له وإعجاباً به، ولكنه اكتفى بأخذ ما تقرّر في البداية، ثم توجّه الى بيت عمّه أبي طالب، وقدّم كل ما أخذه من خديجة الى عمه أبي طالب ليوسّع به على أهله.
ففرح أبو طالب بما عاين من ابن أخيه وبقية أبيه عبدالمطلب وأخيه عبدالله، واغرورقت عيناه بالدموع، وسرّ بما حقق من نجاح وما حصل عليه من ربح من تلك التجارة سروراً كبيراً، واستعدّ أن يعطيه بعيرين يسافر عليهما ويتاجر، وراحلتين يُصلح بهما شأنه، ليتسنى له بأن يحصل على ثروة ومال يعطيه لعمّه ليختار له زوجة.
في مثل تلك الظروف عزم النبي(صلى الله عليه وآله) على الزواج وفاتح عمّه بذلك، ووقع الاختيار على خديجة، وخطب أبو طالب خطبة بهذه المناسبة قال فيها[3]:
«الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكّام على الناس ، ثم إن محمد بن عبدالله أخي، من لا يوازن به فتىً من قريش إلاّ رجح عليه برّاً وفضلاً، وحزماً وعقلاً، ورأياً ونبلاً، وإن كان في المال قُلٌّ فإنّما المال ظلٌّ زائل وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليَّ وله ـ والله ـ بعد نبأ شائع وخطب جليل»[4].
وتتضمن هذه الخطبة عدة اُمور تكشف عن مستوى أبي طالب الفكري والنفسي منها:
1 ـ إنّه أشار بأنه والنبي من ذرية إبراهيم الخط الموحّد المعروف.
2 ـ الاعتراف بقدسية الكعبة ورمزيتها لتوحيد الله.
3 ـ أوضح بأن الرئاسة لقريش جاءت بتقدير من الله سبحانه لا على أساس الوثنية أو المال أو غيرهما.
4 ـ يعتقد أبو طالب بأن النبي(صلى الله عليه وآله) هو ذلك الإنسان الذي لا يساويه أحد من شباب قريش، ولم يكن ذلك على أساس القرابة أو العصبية; وإنّما عن وعي وبصيرة بشخص محمد(صلى الله عليه وآله).
5 ـ وضّح أبو طالب المقاييس الأخلاقية والقيمية التي تفوّق بها محمد(صلى الله عليه وآله) على غيره، وهذا كاشف عن قدرة إدراك أبي طالب الأصيل وإيمانه بهذه القيم التي اعتمدتها الرسالة الإسلامية فيما بعد.
6 ـ تعهّد أبو طالب رغم قلّة ماله بأن يدفع كل ما يحتاجه محمد من المال لغرض الزواج، وعليه هو المبادر لزواج الرسول لا غيره.
لم يكن تبنّي أبي طالب والتزامه للنبي(صلى الله عليه وآله) ناتجاً من علاقة عمومة، وبعد ذلك دفعته العصبية لأن يحميه، وإلاّ لماذا لا تدفع هذه العصبية والقبلية عمّه أبا لهب؟ وإنّما الذي استقر في ذهن أبي طالب وقلبه عظمة النبي(صلى الله عليه وآله) ومستقبله الإلهي، وأبو طالب قد سمع من أبيه عبدالمطلب بأن في ذريته النبوّة.
وتأكيدات الرهبان مثل بحيرى الراهب وقوله لأبي طالب: ارجع بابن أخيك الى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لو رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغينّه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فاسرع به الى بلاده[5].
إذاً ، ترجع هذه العناية للخلفية الدينية التي كان يتمتع بها أبو طالب، لأنه كان على دين أبيه عبدالمطلب، حتّى أ نّه لما سئل الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) : مَنْ كان آخر الأوصياء؟ فقال: «أبي»[6].
ولذا يشير علي بن يحيى البطريق في بيان سرّ علاقة أبي طالب بالنبي بقوله: «لولا خاصة النبوة وسرّها ، لما كان مثل أبي طالب ـ وهو شيخ قريش ورئيسها وذو شرفها ـ يمدح ابن أخيه وهو شاب»[7].
ولما بُعث الرسول(صلى الله عليه وآله) : وأنذر عشيرته الأقربين وهو في بيت أبي طالب; أسلمت تلك العائلة تدريجياً على يديه.
وتفرّد أبو طالب من يومه في موقفه وطريقة إسلامه ودعمه للرسالة لتأثيره على قريش من جهة، وعلى بني عبدالمطلب وبني هاشم من جهة اُخرى. لذا كان يحتاج الى منهج توعوي يتم بواسطته استيعاب تلك القوى، ومن هنا نجد أن أبا طالب قد مارس عدة أساليب تكشف بدورها عن الدور العظيم الذي قام به لصالح الإسلام.
الاُسلوب الأوّل:
إنّ معرفة أبي طالب لقريش ليست كمعرفة غيره بها، فهو على وعي تام بما يدور في خلد قريش، وماهي نقاط الضعف والقوة عندهم، كما أنه كان على دراية تامة بكيفية طبخ القرارات السياسية عند القرشيين، لأنه القريب من موقع القرار والرؤوس المدبّرة له.
وصرّح أبو طالب لقريش بأنه على دين عبدالمطلب، وأن نفسه لا تطاوعه على فراق دين عبدالمطلب، وهذه التصاريح لا تتعارض مع إيمانه الجديد. وتُوهم الخصوم بأنّه ما زال على دينه القديم من جهة، ولأن أبا طالب كان بصدد استغلال موقعه لصالح الرسالة من جهة اُخرى، وليس من الصحيح التفريط به وهو مازال يعد فيه لوناً من الخدمة لأهداف الرسالة.
وبلاشك أن قريشاً تعلم ـ وكما هو واضح ـ بأن الخطر يكمن في بيت أبي طالب بسبب وجود الرسول وأولاد عمّه[8].
فعليه ، يكون أبو طالب بالمنظور القبلي هو المسؤول عن بوادر هذا الخطر.
يقول عقيل بن أبي طالب: «من هنا جاءت قريش لأبي فقالوا: إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي كعبتنا وفي ديارنا ويُسمعنا ما نكره، فإن رأيت أن تكفّه عنّا فافعل. فقال لي : يا عقيل! التمس ابن عمّك، فأخرجه من كيس من أكياس أبي طالب، فجاء يمشي معي يطلب الفيء، يطأ فيه لا يقدر عليه حتى انتهى الى أبي طالب فقال: يا ابن أخي! والله لقد كنت لي مطيعاً جاء قومك يزعمون أنّك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم فتؤذيهم وتسمعهم ما يكرهون، فإن رأيت أن تكفّ عنهم»، فحلّق الرسول(صلى الله عليه وآله) بصره الى السماء ، وقال: «والله ما أنا بقادر أن أردَّ ما بعثني به ربّي، ولو أن يشعل أحدهم من هذه الشمس ناراً» فقال أبو طالب: «والله ما كذب قط فارجعوا راشدين»[9].
وحين قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) للقوم : «من يؤازرني على ما أنا عليه ويجيبني على أن يكون أخي وله الجنة؟ قال علي(عليه السلام) فقلت: أنا يا رسول الله، وإني لأحدثهم سنّاً وأخمشهم ساقاً وسكت القوم، ثم قالوا: يا أبا طالب! ألا ترى ابنك، قال: دعوه فلن يألو من ابن عمه خيراً»[10].
وفي رواية : «لما أراد النبي أن يتكلّم اعترضه أبو لهب، فقال له أبو طالب: اسكت يا أعور، ما  أنت وهذا؟! ثم قال لا يقومنّ أحدٌ. قال: فجلسوا ثم قال للنبي(صلى الله عليه وآله): قُم يا سيدي فتكلّم بما تحب وبلّغ رسالة ربّك فإنّك الصادق المصدّق»[11].
الاُسلوب الثاني:
في الوقت الذي كان يواصل أبو طالب حواراته مع قريش، مستفيداً من موقعه ومكانته في قلوبهم، نجده من جهة اُخرى يحثّ أبناءه : طالباً وعقيلاً وجعفراً وعليّاً على ضرورة مرافقة محمد(صلى الله عليه وآله)، وشدّ أزره والإيمان بما جاء به. حتّى قال يوماً لعلي ـ وهو الأوّل من اخوته إسلاماً ـ : ماهذا الدين الذي أنت عليه؟
فقال : «يا أبت! آمنت بالله وبرسول الله وصدقته بما جاء به وصليتمعه لله واتبعته».
فقال أبو طالب لولده علي(عليه السلام): الزم ابن عمّك[12].
وفي رواية: يا بني! الزم ابن عمّك فإنّك تسلم به من كل بأس عاجل وآجل. ثم قال لي:
إن الوثيقة لزوم محمد***فاشدد بصحبته على أيديكا
وفي كلام آخر لأبي طالب يحرّض ولديه بلزوم الرسول(صلى الله عليه وآله):
إن عليّاً وجعفراً ثقتي***عند ملم الزمان والنوب
لا تخذلا وانصرا ابن عمّكما***أخي لاُمي من بينهم وأبي[13]
وهذا لا يعني أن الرسول(صلى الله عليه وآله) قد أخفى أمر الرسالة عن عمّه أبي طالب وكافله وناصره، وقد فوجئ مثلاً بإيمان علي، نعم ربّما فوجئ بهيئة الصلاة وطريقتها، فالدعم والتوصية من قبل أبي طالب بالنبي(صلى الله عليه وآله) ما هو إلاّ تأكيد لعزم علي(عليه السلام)، وضرورة شدّ أزر النبي(صلى الله عليه وآله)والمضي في رسالته .
ويشهد على ذلك أن أبا طالب عندما شاهد النبي(صلى الله عليه وآله) وعليّاً يصليان وعليٌّ على يمينه قال لجعفر(رضي الله عنه): صِل جناح ابن عمّك، وصلّ عن يساره ، وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه علي، بقليل[14].
الاُسلوب الثالث:
وجد أبو طالب أن من الضروري أن يواجه قريشاً وأن لا يستجيب لمطالبها، وإذاً فالتحدي أمر مفيد ومؤثر في سياستها، لأن أبا طالب كان يتلمّس مواطن الضعف والقوة في الصف القرشي، ثمّ يجد أن العزم والتوكل على الله كفيل بالنصر.
لذا نجده يوصي أخاه حمزة بأن يستعين بالله، وأن لا يخاف من قريش وحكاياتها وإشاعاتها حول الرسول(صلى الله عليه وآله) .
وبهذا أراد أبو طالب أن يوقي أخاه من تلك الشُبهة والدعايات المغرضة، مخافة أن تخفّف من عزمه، ثم أراد أن يعبّر له بأنه مسرور وفرح بإسلامه وتأييده للرسول الذي ينبغي أن يكون بمستوى التضحية مهما كلف الثمن.
وأبو طالب لم يكن ذلك الإنسان المتحجّر في فكره; وإنّما هو ذو ذهن متجدد يتطلع للحق ويدرك وثنية الفكر الجاهلي، من هنا قال لحمزة:
فصبراً أبا يعلى على دين أحمد***وكن مظهراً للدين وفّقت صابرا
وحطّ من أتى بالحقّ من عند ربّه***بصدق وعزم لا تكن حَمْزُ كافرا
فقد سرّني إذ قلت إنّك مؤمن***فكن لرسول الله في الله ناصرا
وبار قريشاً بالذي قد أتيته***جهاراً وقل: ما كان أحمد ساحرا[15]
ولوحظ بهذا الاتجاه جواب أبي طالب لولده علي(عليه السلام) عندما بلّغ النبي(صلى الله عليه وآله) عليّاً بالرسالة وقول عليّ للنبي(صلى الله عليه وآله) : يا رسول الله، حتى أمضي واستأذن والدي فقال له: اذهب سيأذن لك، فانطلق إليه يستأذنه في اتباعه ـ وهذه إشارة لإيمان أبي طالب وعلم النبي(صلى الله عليه وآله) بمعدنه، وإلاّ لا يجوز أن يؤخذ إذنُ الكافر في أن يكون الإنسان مسلماًـ فكان جواب أبي طالب لعلي: يا ولدي! تعلم أنّ محمداً أمين الله منذ كان، إمض إليه واتّبعه ترشد وتفلح[16].
الاُسلوب الرابع:
لما خرج عمرو بن العاص الى بلاد الحبشة ليكيد بجعفر بن أبي طالب وأصحابه عند النجاشي، قال:
تقول ابنتي أين أين الرحيل؟***وما البين مني بمستنكرِ
فقلت دعيني فإني امرؤٌ***اُريد النجاشي في جعفر
لاُكويه[17] عنده كيّة***اُقيم بها نخوة الأصعر [18]،[19]
كما حثّ أبو طالب النجاشي على ضرورة إكرام المهاجرين بالهجرة الثانية[20]، لأن أبا طالب كانت له علاقة طيّبة مع النجاشي وذلك بقوله:
ألا ليت شعري كيف في النّأي جعفر***وعمرو وأعداء النبيّ الأقاربُ؟
فهل نال أفعال النجاشي جعفراً***وأصحابه أو عاق ذلك شاغبُ؟
تعلّم أبيت اللعن إنّك ماجد***كريم فلا يشقى لديك المجانب
تعلّم بأن الله زادك بسطة***وأفعال خير كلّها بك لازب
وإنّك فيض ذو سجال غزيرة***ينال الأعادي نفعها والأقارب[21]
ودعاه اُخرى الى الإسلام كما جاء ذلك في قوله:
ليعلم خيار النّاس أن محمداً***نبي كموسى أو المسيح بن مريم
أتانا بهدى مثل الذي أتيا به***فكلٌّ بأمر الله يهدي لمعصم[22]
الاُسلوب الخامس:
تجاهل أبو طالب موقف قريش وحدّته من الرسالة عن طريق مخاطبته لسادتهم وكبرائهم، فقد دعا أبا لهب في أن ينضم الى الرسالة مخاطباً إيّاه:
وإن امرأً أبو عُتيبة عمّهُ***لفي روضة ما إن يُسامُ المظالما
أقول له، وأين منه نصيحتي:***أبا معتب ثبت سوادك قائما
فلا تقبلنّ الدهر ما عشت خطة***تسبُ بها إما هبطت المواسِما
وَولِّ سبيل العجز غيرك مِنهم***فإنّك لم تخلق على العجز لازما
وحاربوأن الحرب نصفٌولن ترى***أخا الحرب يُعطي الخسف حتى يسالما
وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة***ولم يخذلوك غانماً أو مغارما؟
جزى الله عنّا عبد شمس ونوفلاً***وتيماً ومخزوماً عقوقاً ومأثما
بتفريقهم من بعد وُدّ وألفة***جماعتنا كيما ينالوا المحارما
كذبتم وبيت الله نبزى محمداً***ولما تروا يوماً لدى الشِعب قائماً[23]
وطبيعي أن أبا لهب يعتبر من كبار قريش وله دور مهم في قرار المشركين، فإذا جوبه بهذا الإعلام فعلى الأقل تنكسر شوكته ويخفّ كيده وحقده مع احتمال أن يتحيّد أو يسلم.
وبهذا السياق تمثل خطابات أبي طالب لأبي لهب وغيره تحدّياً وحرباً نفسية تثبّط العزم وتربك صفوف الأعداء، وتفتح آفاقاً جديدة للمسلمين في أن يواصلوا تبليغهم للرسالة.
ثم إن خطابات أبي طالب تثري المسلمين بالمعلومات، لأنها تكشف عن الموقف الحقيقي للأعداء، فلولا هذه الاستفزازات التي تصدّى لها أبو طالب، لما أمكن إدراك طبيعة التفكير الجاهلي وعمق الموقف من الرسالة.
فممّا قاله أبو طالب في هذا الصدد:
أفيقوا أفيقوا قبل أن يُحفر الثرى***ويصبح من لم يَجنِ ذنباً كذي الذنب[24]
وأعرب أبو طالب عن كامل استعداده في أن يضم القبائل الاُخرى ويعلنها حرباً لا هوادة فيها حتى قال:
ولسنا نَمِلُّ الحرب حتى تملّنا***ولا نشتكي ما قد ينوب من النُكب
وكان العباس بن عبدالمطلب أخو أبي طالب يعترف بقدرة وسطوة أبي طالب، في كونه الأدقّ رؤية والأكثر معرفة في أوضاع قريش واستعداداتها، وهو الأجدر في تبنّي الصعاب والمخاطر التي ترتكبها قريش أمام الرسالة، ولذا نجد الرسول(صلى الله عليه وآله) عندما يفاتح عمّه العباس بقوله: «إن الله قد أمرني بإظهار أمري وقد أنبأني واستنبأني فما عندك؟» يقول له العباس: يابن أخي! إنّك تعلم بأنّ قريشاً أشد الناس حسداً لولد أبيك، وإن كانت هذه الخصلة، كانت الطامّة الطمّاء والداهية العظيمة، ورمينا عن قوس واحد وانتسفونا نسفاً، صلنا ولكن قرّب إلى عمّك أبي طالب فإنّه كان أكبر أعمامك إن لم ينصرك لا يخذلك ولا يسلمك ، فأتياه، فلمّا رآهما أبو طالب قال: إن لكما لظنّة وخيراً. ما جاء بكما في هذا الوقت؟ فعرّفه العباس ما قال له النبي(صلى الله عليه وآله)وما أجابه به العباس، فنظر إليه أبو طالب وقال له: اُخرج يا ابن أخي فإنّك الرفيع كعباً والمنيع حزباً والأعلى أباً، والله لا يسلقك لسان إلاّ سلقته ألسنٌ حداد واجتذبته سيوف حداد، والله لتذلنّ لك العرب ذلّ البهم لحاضنها، لقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً، ولقد قال: إن من صلبي لنبيّاً لوددت أ نّي أدركت ذلك الزمان، فآمنت به فمن أدركه من ولدي فليؤمن به[25].
ثم ذكر صفة اظهار نبيّهم(صلى الله عليه وآله) للرسالة عقيب كلام أبي طالب له وصورته وشهادته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Disqus Shortname

Comments system

Ad Inside Post