البحث الرابع
لماذا الاهتمام بالسّجود على التّربة الحسينية ؟
إن الغاية المتوخّاة من السجدة على تربة كربلاء إنما تستند الى أصلين قويمين، وتتوقف على أمرين قيمين:
أولهما: استحسان اتخاذ المصلي لنفسه تربة طاهرة طيبة يتيقن بطهارتها، من أيّ أرض اُخذت، ومن أي صقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلها في ذلك شرع سواء، لا امتياز لإحداهن على الاُخرى في جواز السجود عليها، وإن هو إلاّ كرعاية المصلي طهارة جسده وملبسه ومصلاه، يتخذ المسلم لنفسه صعيداً طيباً يسجد عليه في حله وترحاله، وفي حضره وسفره، ولا سيما في السفر، إذ الثقة بطهارة كل أرض يحل بها، ويتخذها مسجداً لا تتأتى له في كل موضع من المدن والرساتيق والفنادق والخانات وباحات النزل والساحات، ومحال المسافرين، ومحطات وسائل السير والسفر، ومنازل الغرباء، أنى له بذلك؟ وقد يحل بها كل إنسان من الفئة المسلمة وغيرها، ومن أخلاط الناس الذين لا يبالون ولا يكترثون لأمر الدين في موضوع الطهارة والنجاسة.
فأي مانع من أن يحترز المسلم في دينه، ويتخذ معه تربة طاهرة يطمئن بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته، حذراً من السجدة على الرجاسة والنجاسة والأوساخ التي لا يتقرب بها الى الله قطّ؟ ولا تجوّز السنة السجود عليها، ولا يقبله العقل السليم، بعد ذلك التأكيد التام البالغ على طهارة أعضاء المصلي ولباسه، والنهي عن الصلاة في مواطن منها، المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل [10] ، والأمر بتطهير المساجد وتطييبها [11] .
وهذه النظرة كانت متخذة لدى رجال السلف في القرون الاُولى، وأخذاً بهذه الحيطة كان التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع [12] يأخذ في أسفاره لبنة يسجد عليها، كما أخرجه أبو بكر ابن أبي شيبة في كتابه «المصنف»، في المجلد الثاني في باب: من كان يحمل في السفينة شيئاً يسجد عليه، فأخرج بإسنادين: أن مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها.
هذا هو الأصل الأول لدى الشيعة ولهم فيه سلف من الصحابة الأولين والتابعين لهم باحسان.
وأما الأصل الثاني: فإن قاعدة الاعتبار المطردة تقتضي التفاضل بين الأراضي، بعضها على بعض، وتستدعي اختلاف الآثار والشؤون والنظرات فيها، وهذا أمر طبيعي عقلي متسالم عليه، مطّرد بين الاُمم، إذ بالاضافات والنسب تقبل الأراضي والأماكن والبقاع خواصاً ومزايا، بها تجري عليها مقرّرات، وتنتزع منها أحكاماً لا يجوز التغاضي والصفح عنها.
ألا ترى أنّ الساحات والقاعات والدور والدوائر الرسمية المضافة الى الحكومات، وبالأخص ما ينسب منها الى البلاط الملكي، ويعرف باسم عاهل البلاد وشخصه، لها شأن خاص، وحكم ينفرد بها، يجب للشعب رعايته، والجري على ما صدر فيها من قانون؟
فكذلك الأمر بالنسبة الى الأراضي والأبنية والديار المضافة المنسوبة الى الله تعالى، فإن لها شؤوناً خاصة، وأحكاماً وطقوساً ، ولوازم وروابط لابدّ لمن أسلم وجهه لله من أن يراعيها ويراقبها.
فهذا الاعتبار العام المتسالم عليه انتزع للكعبة حكمها الخاص، وللحرم شأن يخصّ به، وللمسجدين الشريفين (جامع مكة والمدينة) أحكامهما الخاصة بهما، وللمساجد العامة والمعابد والصوامع والبيع التي يذكر فيها اسم الله، في الحرمة والكرامة، والتطهير والتنجيس ، ومنع دخول الجنب والحائض والنفساء عليها، والنهي عن بيعها نهياً باتاً، خلاف بقية الأوقاف الأهلية العامة التي لها صور مسوغة لبيعها وتبديلها بالأحسن، الى أحكام وحدود اُخرى منتزعة من اعتبار الإضافة الى ملك الملوك، رب العالمين.
فاتخاذ مكة المكرمة حرماً آمناً، وتوجيه الخلق إليها، وحجهم إليها من كل فج عميق، وإيجاب كل تلكم النسك، وجعل كل تلكم الأحكام حتى بالنسبة الى نبتها ، إن هي إلا آثار الإضافة، ومقررات تحقق ذلك الاعتبار ، وهي السبب في اختيار الله إياها من بين الأراضي.
وكذلك عدّ المدينة المنورة حرماً إلهياً محترماً، وجعل كل تلكم الحرمات الواردة في السنة الشريفة لها وفي أهلها وتربتها ومن حلّ بها ومن دفن فيها، إنما هي لاعتبار ما فيها من الإضافة والنسبة الى الله تعالى، وكونها عاصمة عرش نبيه الأعظم صاحب الرسالة الخاتمة(صلى الله عليه وآله).
وهذا الاعتبار وقانون الإضافة كما لا يخص بالشرع فحسب ، بل هو أمر طبيعي أقرّ الإسلام الجري عليه، كذلك لا ينحصر هو بمفاضلة الأراضي، وإنما هو أصل مطرد في باب المفاضلة في مواضيعها العامة من الأنبياء والرسل، والأوصياء ، والأولياء ، والصديقين، والشهداء، وأفراد المؤمنين وأصنافهم، الى كل ما يتصور له فضل على غيره في مقاييس الإسلام الثابتة. بل هذا الأصل هو محور دائرة الوجود، وبه قوام كل شيء، وإليه تنتهي الرغبات في الاُمور، ومنه تتولد الصلات والمحبات، والعلائق والروابط.
وعليه فلنا أن نسأل : ماالذي دعا النبي(صلى الله عليه وآله) الى أن يبكي على ولده الحسين السبط، ويقيم كل تلكم المآتم ويأخذ تربة كربلاء ويشمّها ويقبّلها؟
وما الذي جعل السيدة اُمّ سلمة اُمّ المؤمنين تصرّ تربة كربلاء على ثيابها ؟
وما الذي سوّغ للصديقة فاطمة أن تأخذ تربة قبر أبيها الطاهر وتشمّها ؟
وما الذي جعل عليّاً أمير المؤمنين(عليه السلام) يأخذ قبضة من تربة كربلاء لما حلّ بها، فيشمّها ويبكي حتى يبلّ الأرض بدموعه، وهو القائل: يحشر من هذا الظهر سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب. كما أخرجه الطبراني وقد قال الهيثمي [13] : رجاله ثقات.
وهكذا يتضح لدى الباحث النابه الحرّ سرّ فضيلة تربة كربلاء المقدسة. ومبلغ انتسابها الى الله سبحانه وتعالى، ومدى حرمتها وحرمة صاحبها دنواً واقتراباً من العلي الأعلى، فما ظنّك بحرمة تربة هي مثوى قتيل الله، وقائد جنده الأكبر المتفاني دونه، هي مثوى حبيبه وابن حبيبه، والداعي إليه، والدال عليه، والناهض له، والباذل دون سبيله أهله ونفسه ونفيسه، والواضع دم مهجته في كفه إعلاءً لكلمته، ونشر توحيده ، وتحكيم معالمه، وتوطيد طريقه وسبيله.
كيف لا يديم ذكره في أرضه وسمائه، وقد أخذت محبة لله بمجامع قلبه؟
أفليست السجدة على تربة هذا شأنها لدى التقرب الى الله في أوقات الصلوات، أطراف الليل والنهار، أولى وأحرى من غيرها من كل أرض وصعيد وقاعة وقرارة طاهرة، أو من البسط والفرش والسجاد المنسوجة ولم يوجد في السنة أي مسوغ للسجود عليها؟
أليس أجدر بالتقرب الى الله، وأقرب بالزلفى لديه، وأنسب بالخضوع والخشوع والعبودية له تعالى أمام حضرته، وضع صفح الوجه والجباه على تربة في طيّها دروس الدفاع عن الله. ومظاهر قدسه، ومجلى التحامي عن ناموسه ناموس الإسلام المقدس؟
أليس أليق بأسرار السجدة على الأرض السجود على تربة فيها سرّ المنعة والعظمة والكبرياء والجلال لله جلّ وعلا، ورموز العبودية والتصاغر دون الله بأجلى مظاهرها وسماتها ؟
أليست أحق بالسجود عليها تربة فيها بينات التوحيد والتفاني دونه؟ تدعو الى رقة القلب، ورحمة الضمير والشفقة والتعطف.
أليس الأمثل والأفضل اتخاذ المسجد من تربة تفجرت في صفيحها عيون دماء اصطبغت بصبغة حب الله، وصبغت على سنة الله وولائه المحض الخالص؟
وليس اتخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتم، ولا من واجب الشرع والدين، ولا مما ألزمه المذهب، ولا يفرّق أي أحد منهم منذ أول يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها، خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم، وإن هو عندهم إلا استحسان عقلي ليس إلاّ، واختيار لما هو الأولى بالسجود عليه لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت. وكثير من رجال المذهب يتخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء مما يصح السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم [14] .
مضافاً الى ذلك كلّه ماورد عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) من الاهتمام بهذه التربة الطيّبة الزاكية في النصوص الصحيحة الكثيرة في التبرك بها و تقبيلها و تفضيل السجود عليها.
لذا لم تقتصر التربة الحسينيّة من حيث المفاضلات وحدها، بل اُتّخذت رمزاً آخراً لقضية كبيرة في الإسلام ذات أبعاد عقائدية وتربوية تستمد قيمتها من نهضة الإمام الحسين وخلودها.
________________________________________
[1] هذه هي الشيعة، باقر شريف القرشي: 267 ـ 270 .
[2] مسند أحمد بن حنبل: 7/418، حديث اُمّ سلمة، ح 25985 .
[3] مجمع الزوائد : 9/185 ـ 189، باب مناقب الحسين(عليه السلام).
[4] مستدرك الوسائل: 4، 12، باب 9 من أبواب استحباب السجود على تربة الحسين(عليه السلام) ، ح 4056 ، نقلاً عن المزار الكبير للمشهدي، والبحار: 101 / 133، ح 64، تفصيل وسائل الشيعة: 6/455، باب 16 باب اتخاذ سبحة من طين قبر الحسين(عليه السلام)، ح 8427.
[5] مجمع الزوائد للهيثمي: 9/191.
[6] مستدرك الحاكم: 4/398، كنز العمال: 7/106، سير أعلام النبلاء: 3/15، ذخائر العقبى : 148.
[7] مستدرك الحاكم: 3/176 و 4/398، كتاب تعبير الرؤيا.
[8] مجمع الزوائد: 9/187 ، وفي تهذيب الكمال: 71، أن النبي أخذ التربة التي جاء بها جبرئيل فجعل يشمّها ويقول: «ويح كرب وبلاء».
[9] المعجم الكبير للطبراني : 3/108، في باب ترجمة الإمام الحسين.
[10] سنن ابن ماجة: 1/ 252 ، ومسانيد وسنن اُخرى.
[11] سنن ابن ماجة: 1/ 256 ومصادر اُخرى.
[12] مسروق بن الأجدع عبدالرحمن بن مالك الهمداني أبو عائشة المتوفى 62 تابعي عظيم من رجال الصحاح الست، يروي عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. كان فقهياً عابداً ثقة صالحاً، كان في أصحاب ابن مسعود الذين كانوا يعلمون الناس السنّة، وقال حين حضره الموت كما جاء في طبقات ابن سعد: اللهم لا أموت على أمر لم يسنه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولا أبو بكر ولا عمر. راجع تاريخ البخاري الكبير 4 ق: 2/ 35، طبقات ابن سعد: 6/ 50 ـ 56، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4 ق: 1/ 396 ، تهذيب التهذيب: 10/ 109 ـ 111 .
[13] مجمع الزوائد: 9 / 191 .
[14] عبدالحسين الأميني : سيرتنا وسنتنا : 158 ـ 167.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق