يقوم تشريع الزواج في الإسلام على خطّين:
الأول : الزواج الدائم ويعتبر أفضل ما بناه الإسلام ، وهذا هو الخط التشريعي الأوّل في باب الزواج .
والثاني : الزواج المؤقّت وهو صمّام الأمان الذي يحول دون وقوع المجتمع في رذيلة الزنا، عندما لا يتيسر الزواج الدائم للفرد، أو يتيسر ولكنّ أغراضاً عقلائية ومشروعة تدعو الى ذلك.
إنّ الزواج المؤقت يشترك مع جوهر الزواج الدائم من جهة صرف الشهوة في طريق الحلال، وحفظ الأنساب والحيلولة دون اختلاطها ، ورعاية مظاهر العفّة والاحتشام في المجتمع ، ويتسامح من جهة ثانية في اُمور جانبية لا تمس جوهر الزواج ، ففي الزواج المؤقّت عقد ومهر وعِدّة وأجل محدود ، وينتفي فيه الميراث والنفقة .
وهذا النوع من الزواج ثابت من الناحية الشرعية بنصّ الكتاب العزيز والسنة الشريفة ، ولم يخالف أحد من المسلمين في تشريعه في عصر الرسول(صلى الله عليه وآله) . وكلّ ما حصل بشأنه أنّ الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب قد منعه وعاقب عليه، فتبعته مدرسة الخلفاء اعتماداً منها على مبدئها القائل بحجية عمل الصحابي، ومنهم من نزّل ذلك منزلة النسخ له.
ومن أجل تصحيح موقفه من المتعة ظهرت ادعاءات شتى منها: أن التحريم والمنع بدأ من عصر النبي(صلى الله عليه وآله)نفسه ، وأنّ القرآن قد نسخ آية المتعة.
ولأجل إجلاء الحقيقة في هذه القضية التشريعية المهمة لابد لنا من المرور بنقاط ثلاث:
النقطة الاُولى: الزواج المؤقت في الكتاب والسنّة.
النقة الثانية: هل نسخ حكم الزواج المؤقت ؟
النقطة الثالثة: موقف الصحابة والتابعين من الزواج المؤقت.
النقطة الاُولى: الزواج المؤقت في الكتاب و السنة :
لقد أجمع أهل القبلة كافة على أنّ الله تعالى قد شرّع هذا النكاح في دين الإسلام، ولا يرتاب في هذا أحد من علماء المذاهب الإسلامية على اختلافها، بل لعل أصل مشروعيته يُلحق بالضروريات. و الكتاب العزيز يدلّ على مشروعيته ، كما أنّ الأخبار في مشروعيته متواترة حتى عند من يدّعي نسخه .
أما الكتاب العزيز :
فقد قال الله تعالى (فما استمتعتم به منهن فآتوهن اُجورهن فريضة)[1] وكان اُبي بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير وابن مسعود والسدي يقرأونها « فما استمعتم به منهن إلى أجل مسمى» أخرج ذلك عنهم الطبري في تفسير الآية من تفسيره الكبير ، وأرسل الزمخشري في الكشاف هذه القراءة، ارسال المسلّمات ، وكذلك الرازي في تفسيره، وشرح صحيح مسلم للنووي في أول باب نكاح المتعة .
وأيد الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ، وأبو بكر الجصاص في أحكام القرآن، وأبو بكر البيهقي في السنن الكبرى، والقاضي البيضاوي في تفسيره، وابن كثير في تفسيره، وجلال الدين السيوطي في الدر المنثور، والقاضي الشوكاني في تفسيره، وشهاب الدين الآلوسي في تفسيره نزول هذه الآية في موضوع المتعة، بأسناد تنتهي الى أمثال ابن عباس، واُبي بن كعب، وعبدالله بن مسعود، وعمران بن حصين، وحبيب بن أبي ثابت، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد.
وليس بالإمكان تفسير الآية بالنكاح الدائم كما أصرّ عليه صاحب تفسير المنار ، وذلك للأسباب التالية:
1 ـ ما مرّ من أن عدداً من الصحابة كانوا يقرأون الآية ( فما استمتعتم به منهن ـ الى أجل مسمى ـ فآتوهن اُجورهن فريضة) بإضافة جملة شارحة في الوسط هي «الى اجل مسمى» ، وغرضهم منها بيان المعنى والمورد والتفسير، وهذه الجملة الشارحة لا تنسجم إلاّ مع النكاح المؤقت.
2 ـ إنّ لفظ المتعة، وإن كان صالحاً للاستخدام في الزواج الدائم إلاّ أنه في الزواج المنقطع أظهر، كما أن لفظ النكاح وإن كان صالحاً للاستخدام في الزواج المنقطع ، إلاّ أنه في الزواج الدائم أظهر، وورود لفظ المتعة في الآية يساعد على تفسيرها بالزواج المنقطع لا الدائم، وإن لم يكن فيه أظهر، فلا أقل من قبول دلالته على الزواج المنقطع، ويكون حينئذ من الألفاظ المشتركة المستعملة في أكثر من معنى واحد.
3 ـ إن آية المتعة واردة في سورة النساء التي ابتدأت بذكر النكاح والزواج الدائم، و أحكامه خلال الآيات 3 و 4 و 20 ـ 23 ، فإن كان المراد من المتعة هو النكاح الدائم أيضاً تكون هذه الآية تكراراً لمطلب مذكور في ما سبق من السورة.
4 ـ لو كانت المتعة بمعنى الزواج الدائم فما هو المقصود بدعوى النسخ حينئذ ؟ هل المقصود نسخ حكم الزواج الدائم؟! فلهذا تكون دعوى النسخ مؤيّدة لكون آية المتعة بمعنى الزواج المنقطع لا الدائم.
أما النصوص والأخبار :
فهي متواترة وكثيرة جداً ونشير الى بعضها:
1 ـ .. عن جابر ، قال كنّا نستمتع ... على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)وأبي بكر.. ثم نهى عنه عمر[2]...
2 ـ ... عن ابن عباس: إن آية المتعة محكمة ليست بمنسوخة[3].
3 ـ ... تمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر ونصفاً من خلافة عمر ثم نهى عمر الناس[4].
4 ـ عن الحكيم، وابن جريح وغيرهما، قالوا: قال علي(رضي الله عنه): لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي[5].
5 ـ عن عمران بن حصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ، لم تنزل آية بعدها تنسخها، فأمرنا بها رسول الله ، وتمتّعنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومات ولم ينهنا عنها، ثم قال رجل برأيه ما شاء[6].
6 ـ وأخيراً فقد روى ابن جريح وحده ثمانية عشرحديثاً في حلّية المتعة[7] فضلاً عمّا رواه غيره.
فالأخبار والنصوص تؤكّد ما دلّت عليه الآية الكريمة من حلّية الزواج المؤقت (أي زواج المتعة) ودوام مشروعيتها، وأنّ التحريم إنّما كان من عمر ـ لا من النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) ـ وأن طائفة من الصحابة والتابعين وحتى ابن عمر نفسه ، قد استمروا على القول بحلّيتها رغم تحريم عمر.
_____________________________________
[1] النساء: 24 .
[2] صحيح مسلم: 4 / 131 طبع مشكول ، مسند أحمد : 6 / 405، فتح الباري: 9/ 149.
[3] الكشاف : 1 / 498 طبع بيروت، والغدير : 6 عن تفسير الخازن : 1 / 357.
[4] بداية المجتهد: 2 / 58 والغدير : 6 / 223 و 207.
[5] تفسير الطبري : 5 / 9 وتفسير الرازي: 10 / 50 والدر المنثور :2 / 140 بل: شقيّ، أي قليل.
[6] صحيح البخاري : 2 / 168 و6 / 33، وصحيح مسلم: 4 / 48، وسنن النسائي: 5/ 155 ومسند احمد : 4 / 426 بسند صحيح.
[7] نيل الأوطار : 6 / 271، فتح الباري : 9 / 150.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق