تشدّد فقهاء
المسلمين في باب التكفير بين أهل القبلة، ولم يجيزوه إلاّ وفق شروط خاصة،
وفي نطاق ضيق جداً، لخطورة الآثار الشرعية المترتبة عليه، وتشدّدت السنّة
النبوية المطهرة فيه. واشتهار الأمر وذيوعه يغنينا عن التفصيل فيه، وإيراد
شواهد من كلمات الفقهاء والمتكلمين فيه.
والذي يهمّنا في هذا الباب أن نذكر أن من الشروط المعروفة في التكفير، أن لا يكون العمل الذي يُدان به الشخص بالكفر ناشئاً عن اجتهاد خاطئ، فإن المجتهد معذور فيما أدّى إليه اجتهاده، ولا سبيل لمجتهد على مجتهد آخر.
وهذا ما ينطبق على باب اللعن، فمن أدى اجتهاده ومذهبه الى جواز لعن بعض الصحابة، بل حسن ذلك ورجحانه لا يمكننا الحكم عليه بكفر أو فسق، حتى وإن كان اللعن موجباً لذلك من حيث الأصل ، فالاجتهاد من جملة ما يدرأ به ذلك الحكم المفترض.
وفيما يلي ندوّن مقتطفات من آراء الشيخ ابن تيمية والشيخ ابن قيم الجوزية في هذا المضمار، نقلها عنهما الشيخ سليمان بن عبدالوهاب ـ الأخ الشقيق للشيخ محمد بن عبدالوهاب مؤسس الوهابية ـ في كتابه الصواعق الإلهية في الردّ على الوهابية. فقد كتب يقول:
والذي يهمّنا في هذا الباب أن نذكر أن من الشروط المعروفة في التكفير، أن لا يكون العمل الذي يُدان به الشخص بالكفر ناشئاً عن اجتهاد خاطئ، فإن المجتهد معذور فيما أدّى إليه اجتهاده، ولا سبيل لمجتهد على مجتهد آخر.
وهذا ما ينطبق على باب اللعن، فمن أدى اجتهاده ومذهبه الى جواز لعن بعض الصحابة، بل حسن ذلك ورجحانه لا يمكننا الحكم عليه بكفر أو فسق، حتى وإن كان اللعن موجباً لذلك من حيث الأصل ، فالاجتهاد من جملة ما يدرأ به ذلك الحكم المفترض.
وفيما يلي ندوّن مقتطفات من آراء الشيخ ابن تيمية والشيخ ابن قيم الجوزية في هذا المضمار، نقلها عنهما الشيخ سليمان بن عبدالوهاب ـ الأخ الشقيق للشيخ محمد بن عبدالوهاب مؤسس الوهابية ـ في كتابه الصواعق الإلهية في الردّ على الوهابية. فقد كتب يقول:
«وعلى تقدير هذه الاُمور التي تزعمون أنها كفر، أعني النذر وما معه. فهنا أصل آخر من اُصول أهل السنّة مجمعون عليه، كما ذكره الشيخ تقي الدين وابن القيّم عنهم، وهو أن الجاهل والمخطئ من هذه الاُمّة ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً، أنه يعذر بالجهل والخطأ حتّى تتبين له الحجّة الذي يكفر تاركها بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله، أو ينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، مما أجمعوا عليه إجماعاً جلياً قطعياً يعرفه كل (واحد) من المسلمين من غير نظر وتأمّل[1].
ونقل عن ابن القيّم قوله: «وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام وكفر مقيّد خاص، فالمطلق أن يجحد جملة ما أنزل الله ورسالة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والخاص المقيّد أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام، أو محرّماً من محرّماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبراً أخبر الله به، عمداً أو تقديماً لقول من خالفه عالماً عمداً لغرض من الأغراض، وأما ذلك جهلاً أو تأويلاً يعذر فيه فلا يُكفّر صاحبه لما في الصحيحين والسنن والمسانيد عن أبي هريرة، قال: قال النبي(صلى الله عليه وآله): قال رجل لم يعمل خيراً قط لأهله ـ وفي رواية: أسرف رجل على نفسه ـ فلما حضر أوصى بنيه إذا مات فحرّقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لأن قدر الله عليه ليعذبنّه عذاباً ما عذّب به أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت تعلم، فغفر له.
فهذا منكر لقدرة الله عليه، ومنكر للبعث والمعاد، مع هذا غفر الله له وعذره بجهله، لأنّ ذلك مبلغ علمه لم ينكر ذلك عناداً، وهذا فصل النزاع في بطلان قول من يقول: «إن الله لا يعذر العباد بالجهل في سقوط العذاب إذا كان ذلك مبلغ علمه»[2].
ونقل عن ابن تيمية، أنه يقول:
ومن البدع المنكرة، تكفير الطائفة وغيرها من طوائف المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم، وهذا عظيم، لوجهين:
أحدهما: أن تلك الطائفة الاُخرى قد لا يكون فيها من البدعة أعظم ممّا في الطائفة المكفِّرة لها، بل قد تكون بدعة الطائفة المكفِّرة لها أعظم من بدعة الطائفة المكفَّرة، وقد تكون نحوها وقد تكون دونها، وهذا حال عامّة أهل البدع والأهواء الذين يكفّرون بعضهم بعضاً، وهؤلاء من الذين قال الله فيهم: (إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)[3].
الثاني: أنه لو فرض أن إحدى الطائفتين مختصة بالبدعة والاُخرى موافقة للسنّة، لم يكن لهذه السنّة أن تكفّر كل من قال قولاً أخطأ فيه، فإنّ الله تعالى قال: (ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)[4] وثبت في الصحيح عن النبي أن الله تعالى: «قال: قد فعلت» وقال تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم)[5].
وروي عن النبي[6] أنه قال: «إن الله تجاوز لاُ مّتي عن الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه» وهو حديث حسن ورواه ابن ماجة وغيره، وقد أجمع الصحابة والتابعون لهم باحسان وسائر أئمة المسلمين، على أنه ليس كل من قال قولاً أخطأ فيه أنه يكفّر بذلك، ولو كان قوله مخالفاً للسنّة، ولكن للناس نزاع في مسائل التكفير قد بسطت في غير هذا الموضع[7].
ونقل عنه أيضاً قوله:
«إني اُقرر أن الله قد غفر لهذه الاُمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية والمسائل العلمية، ومازال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد منهم معيّن لأجل ذلك لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية، كما أنكر شريح قراءة: (بل عجبت ويسخرون)[8]، وقال: «ان الله لا يعجب»، إلى أن قال: «وقد آل النزاع بين السلف إلى الاقتتال مع اتفاق أهل السنّة على أن الطائفتين جميعاً مؤمنتان، وأنّ القتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم، لأن المقاتل وإن كان باغياً فهو متأول، والتأويل يمنع الفسق، وكنت اُبيّن لهم أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الاُمّة من مسائل الاُصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإنّ نصوص الوعيد في القرآن مطلقة عامة، كقوله تعالى: (إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً)[9] الآية، وكذلك سائر ما ورد مَن فعل كذا فله كذا، أو فهو كذا، فإنّ هذه النصوص مطلقة عامة، وهي بمنزلة من قال من السلف من قال كذا فهو كافر»، إلى أن قال: «والتكفير يكون من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول(صلى الله عليه وآله)، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر، أو وجب تأويلها وإن كان مخطئاً، وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال لأهله: «إذا أنا متّ فأحرقوني» الحديث، فهذا رجل شك في قدرة الله وفي اعادته إذا ذرّي، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك، والمتأوّل من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول(صلى الله عليه وآله) أولى بالمغفرة من مثل هذا»[10].
ونقل أيضاً أن ابن تيمية قد سُئل عن رَجُلَيْن تكلما في مسألة التكفير، فأجاب وأطال وقال في آخر الجواب: «لو فرض أن رجلاً دفع التكفير عمّن يعتقد أنه ليس بكافر حماية له ونصراً لأخيه المسلم، لكان هذا غرضاً شرعياً حسناً، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر»[11].
وهذه المقتطفات من آراء مؤسسي السلفية الحديثة تغني عن سرد آراء سائر الفقهاء، وإن كنّا لا نعدم وجود من شطحت به عصبيته، وافتى بتكفير من سبّ الصحابة، فسبب بذلك الويلات على من اُتهم بذلك كما سنرى في النقطة التالية.
8 ـ المنشأ السياسي لتكفير من اُتهم بسبّ الصحابةش
وأروع بيان في هذا المضمار ما كتبه الاُستاذ الشيخ أسد حيدر، إذ كتب يقول[12]:
«إن تهمة سب الصحابة قد استفحل داؤها فعز علاجه، ونفذ حكمها فعظم نقضه، وسرت تلك الدعاية في مجتمع تسوده عاطفة عمياء وعصبية هوجاء، وقد وقفت الحقيقة أمام ذلك الوضع المؤلم مكتوفة اليد، وأسدلت دونها أبراد التمويه، واُحيطت بأنواع الحواجز واُقيمت في طريق الوصول إليها آلاف من العقبات وسلاح القوة فوق ذلك، إذ السلطة قررت نظام انطباق الكفر والزندقة على المعارضين لسياستها، ولم يمكنهم تحقيقه إلاّ باتهام سبّ الصحابة، أو أبي بكر وعمر بصورة خاصة. وإذا حاول المفكرون أن يقفوا على حقيقة الأمر والواقع أخذوا بتلك التهمة وشملهم ذلك النظام الجائر. فكانت الحكومة إذا أرادت أن تعاقب شيعياً لمذهبه لم تذكر اسم عليّ بل تجعل سبب العقوبة أنه شتم أبابكر وعمر. قاله في المنتظم، وقال ابن الأثير في حوادث ( سنة 407 هـ ): وفي هذه السنة قتلت الشيعة في جميع بلاد افريقيا وجعل سبب ذلك اتهامهم بسب الشيخين[13].
وما أكثر تلك الفظائع السود والأعمال الوحشية التي وقعت طبقاً لنظام السياسة، ولا علاقة لها بنظام الإسلام الذي يقضي على مرتكبها بالخروج منه.
وإن المسألة مكشوفة لا تحتاج إلى مزيد بيان لشرح الأسباب التي أدت إلى حدوث تلك الحوادث المؤلمة، وارتكاب تلك الجرائم الفادحة، ومعاملة شيعة أهل البيت بتلك المعاملة القاسية.
وليس هناك من شك بأن استقلال الشيعة الروحي، وعدم اعترافهم بشرعية سلطان لا يحترم نواميس الدين، ولا يلتزم بأوامر الشرع جعلهم خصوماً للسلطة. فكانت مشكلة التشيع من أعظم المشاكل التي تواجهها الدولة.
فلقيت الشيعة بسبب خصومتها للدولةومعارضتها لحكام الجور انتكاسات في سبيل نشر الدعوة، كما لقيت انتصارات إذ لم تكن تلك الانتكاسات لتعود بهم القهقري، أو تلقي بهم في نطاق الفشل الضيق، واليأس من المضي في سبيل إظهار عقيدتهم، فقد كان لهم من الحيوية ورسوخ العقيدة ما ساعدهم على المضي في استرجاع مكانتهم في التاريخ، لحمل رسالة يلزمهم أداؤها ويجب عليهم مواصلة الكفاح لتحقيقها تلك هي رسالة الإسلام، تحت ظلال دعوة أهل البيت(عليهم السلام).
فكان لهم الأثر العظيم في نشر الوعي الإسلامي وإطلاق الفكر من عقال الجمود.
وعلى أي حال، فإن أعداءهم لم يجدوا حلاً لهذه المشكلة، إلاّ بأن يلصقوا بهم تُهماً يتلقاها المجتمع بالقبول، فتوسعوا في التهم واتّخذوا مرتزقة لتحقيق ذلك الغرض، فقالوا: إن الشيعة تكفّر جميع أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله) ويطعنون عليهم، وبذلك يتوجه الطعن على النبي(صلى الله عليه وآله) وأنهم يرمون اُمهات المؤمنين وغير ذلك.
ووضعوا قاعدة قررها علماء السوء وهي: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله)فاعلم أنه زنديق. وذلك أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حق والقرآن حق، وإنّما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وإنّما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة والجرح بهم أولى وهم زنادقة[14].
وحكموا على من اتّهم بسبّ الشيخين بالكفر، فلا يغسّل ولا يصلّى عليه، ولا تنفعه شهادة أن لا إله إلاّ الله، ويدفع بالخشب حتّى يوارى في حفرته[15].
وأنه إذا تاب لا تقبل توبته بل يجب قتله[16]. وقال بعضهم بحرمة ذبيحته وحرمة تزويجه. ومن هذا وذاك سرت فكرة كفر الشيعة، لأن الدولة قضت بنظامها القضاء عليهم، وأن يسندوا ذلك إلى الشرع ـ وحاشاه من ذلك ـ ولكن السياسة عمياء، والحق لا قيمة له عند علماء السوء الذين اندفعوا لمؤازرة السلطة وإغواء العامة.
ونود هنا أن نشير لنبذة من بحث للإمام كاشف الغطاء حول ذكر الفروق الجوهرية بين الطائفتين[17].
قال ـ بعد ذكر الاختلاف في الخلافة ـ : «وقد لا يدخل هذا في المعصية أيضاً ولا يوجب فسقاً إذا كان ناشئاً عن اجتهاد واعتقاد وإن كان خطأ، فإن من المتسالم عليه عند الجميع في باب الاجتهاد أن للمخطئ أجراً وللمصيب أجرين. وقد صحح علماء السنّة الحروب التي وقعت بين الصحابة في الصدر الأول، كحرب الجمل وصفين وغيرهما، بأن طلحة والزبير ومعاوية اجتهدوا وإن أخطأوا في اجتهادهم، ولكن لا يقدح ذلك في عدالتهم وعظيم مكانتهم. وإذا كان الاجتهاد يبرر ولا يستنكر قتل آلاف النفوس وإراقة دمائهم، فبالأولى أن يبرر ولا يستنكر معه (أي مع الاجتهاد) تجاوز بعض المتطرفين على تلك المقامات المحترمة.
وليس في وسعنا نقل كلمات علماء الشيعة حول هذه النقطة المهمة التي لها أثرها العظيم في تكدير صفو الاُخوة الإسلامية، فأصبحت طريقاً لأعداء الدين يدخلون فيه لأغراضهم، ثم أضاف يقول:
إن فكرة اتهام الشيعة بسب الصحابة وتكفيرهم، كونتها السياسة الغاشمة، وتعاهد تركيزها اُناس مرتزقة باعوا ضمائرهم بثمن بخس وتمرغوا على أعتاب الظَلَمة، يتقربون إليهم بذم الشيعة. وقد استغلّ أعداء الدين هذه الفرصة فوسعوا دائرة الإنشقاق لينالوا أغراضهم، ويشفوا صدورهم من الإسلام وأهله، وراح المهرجون يتحمسون لإثارة الفتن وإيقاد نار البغضاء بين المسلمين بدون تدبّر وتثبت، وقد ملئت قلوبهم غيظاً.
وبحكم السياسة وتحكمها أصبحت الشيعة وهي ترمى بكل عظيمة وتهاجم بهجمات عنيفة، واندفع ذوو الأطماع يعرضون ولاءهم للدولة في تأييد ذلك النظام والاعتراف به، وأ نّه قد أصبح جزءاً من حياة الاُ مّة العقلية وهم يخادعون أنفسهم.
ولم يفتحوا باب النقاش العلمي وحرموا الناس حرية القول، وأرغموهم على الاعتراف بكفر الشيعة والابتعاد عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، ولو سألهم سائل عن الحقيقة وطلب منهم أن يوضحوا لهم ذلك، فليس له جواب إلاّ شمول ذلك النظام له، ونحن نسائلهم:
1 ـ أين هذه الاُ مّة التي تكفر جميع الصحابة ويتبرأون منهم؟
2 ـ أين هذه الاُ مّة التي تدّعي لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) منزلة الربوبية؟
3 ـ أين هذه الاُ مّة التي أخذت تعاليمها من المجوس فمزجتها في عقائدها؟
4 ـ أين هذه الاُمّة التي حرفت القرآن وادّعت نقصه؟
5 ـ أين هذه الاُمّة التي ابتدعت مذاهب خارجة عن الإسلام؟
إنهم لا يستطيعون الجواب على ذلك، لأن الدولة قررت هذه الإتهامات فلا يمكنهم مخالفتها. ولا يمكن إقناعهم بلغة العلم. وما أقرب الطريق إلى معرفة الحقيقة لو كان هناك صبابة من تفكير وبقايا من حب الاستطلاع وخوف من الله وحماية الدين.
أليس التشيع مبدأ يشمل عدداً وافراً من أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله)وهم من البدريين وأهل بيعة الرضوان؟ ممّن والى علياً(عليه السلام) ويرى أحقيته بالخلافة.
أليس من الشيعة علماء اعترف الكل بعلو منزلتهم وغزارة علمهم، واحتاج الناس إليهم، وهم من شيوخ كبار العلماء ورجال الصحاح كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، والبخاري وغيرهم، وقد خرّج أصحاب الصحاح لعدد وافر من رجال الشيعة، يربو عددهم على ثلاثمائة رجل، ولا يسع المقام لنشر أسمائهم فنتركهم لفرصة اُخرى[18] .
أليس من الشيعة رجال حملوا رسالة الإسلام وتحملوا المصاعب في أدائها، ومنهم حملة فقه، لولاهم لضاع الفقه وذهبت تعاليم الإسلام، وإن للشيعة يداً في المحافظة على التراث الإسلامي وصيانته عن تلاعب السياسة». ثم يقول:
«لم نسهب في بيان الموضوع عبثاً واستطراداً، ولم نقصد به خوض بحث لا علاقة له بموضوع الكتاب، بل الواقع أن هذا الموضوع من أهم المواضيع التي يجب أن نتطرق إليها في هذا الكتاب الذي أقدمنا عليه لبيان مذهب أهل البيت(عليهم السلام).
وإن أهم مشكلة تقف أمام الباحث هي مسألة اتهام الشيعة بسبّ الصحابة أو تكفيرهم. وقد بيّنا مراراً أن ذلك يعود إلى عوامل سياسية لا صلة لها بالواقع، لأن اسم الشيعة ارتبط بآل محمد(صلى الله عليه وآله)وهم أنصارهم وآل محمد هم الشجى المعترض في حلق اُولئك الحكام، الذين استبدّوا بالحكم وجاروا على الاُمّة، فكان من دواعي السياسة أن تطبع في قلوب الناس طابع البغض للجانب الذي ينافسهم ويعارضهم، أو من لا يؤازرهم، وهو يقف موقف المعارضة لأعمالهم.
وهل من شك في معارضة الشيعة وعدم مؤازرتهم الدولة، وأنهم لا يعترفون بشرعيتها في تلك العصور، لأنهم لا يتنازلون عن الاعتقاد بأحقية أهل البيت للخلافة، لما طبعوا عليه من صفاء النفس والتضحية في سبيل المصلحة العامة، وهم أولى الناس بالأمر وأعدلهم بالحكم. لذلك نرى أن تهريج نظام الحكم على من اتّهم بسبّ الصحابة يهدف إلى عقاب الشيعة فقط. أما غيرهم فلا يشمله هذا الحكم ولو كان ملحداً ! كما مرّ بيانه.
وقد تسرع المخدوعون بالظواهر إلى الاعتراف به، وقاموا بتنفيذه، فحكموا على الشيعة بالفسق مرّة، وبالكفر اُخرى، وليتهم حدّدوا لذلك حداً حتّى يعرف الناس كيفية المؤاخذة، ولكنهم وسّعوا الدائرة واختلفت الصور، كما وأنهم قرروا عدم قبول توبة المتهم بسبّ الصحابة، أو الشيخين بصورة خاصة، وقرروا انطباق الآراء الفردية على مجموع الاُمّة. من دون تثبت في الحكم وتورع في الموضوع.
ولهذا فإن المرتزقة، من العلماء الذين أصبحوا مصدراً للفتوى، وحكاماً للسلطة التشريعية، قد أخذوا على عاتقهم مسؤولية إغواء العامة وحملهم على خلاف الحق، فكانوا دعاة فرقة وأئمة ضلال، فحكموا على الشيعة بالأخص ـ من دون بيان لمستند الحكم ودليل للفتوى ـ ، بأن قتالهم (أي الشيعة) جهاد أكبر، ومن قتل في حربهم فهو شهيد. ويقول في خاتمة الفتوى: ومن شك في كفرهم ـ أي الشيعة ـ كان كافراً . وآخر يقول ـ كما في الخلاصة ـ : الرافضي إذا كان يسبّ الشيخين ويلعنهما، فهو كافر، وإن كان يفضل علياً عليهما، فهو مبتدع[19].
وهكذا زيّنوا للناس حب الوقيعة بعضهم ببعض، وأباحوا قتل المسلم بيد أخيه المسلم، بدون تثبت في الحكم ووقوف أمام حرمة ذلك، وليس غرضهم إلاّ إرضاء السلطة وإن غضب الله عليهم.
ولا حاجة بنا إلى نقل عبارات تعبر عن عقلية قائليها ومقدار إدراكهم للواقع فلا نطيل الوقوف على تلك الخرافات والأباطيل، فلنسدل الستار عنها. ولابد لنا أن نلحظ نقطتين:
الاُولى: هل الطعن على مجموع الصحابة موجب لهذه الأحكام القاسية، أم أن هناك فرقاً وتمييزاً؟ فإن كان هذا الحكم على كل من طعن صحابياً أو وصفه بصفة لا تليق به، فلماذا لم يحكموا على من طعن على عدد كثير من الصحابة ووصفهم بما لا يليق بهم؟ وهم من كبار الصحابة وأعيانهم، لأنهم أنكروا على عثمان أوضاع بني اُمية الشاذة ومسايرته لهم، أو خالفوا معاوية ابن أبي سفيان. أليس من الطعن والتنقيص وصفهم للصحابة: بأنهم أجلاف أخلاط من الناس، لا شك أنهم مفسدون في الأرض بغاة على الإمام[20].
ويقول ابن تيمية: بأنهم خوارج مفسدون في الأرض إلى أن يقول: ولم يقتله ـ أي عثمان ـ إلاّ طائفة قليلة باغية ظالمة. وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون[21].
ويقول ابن حجر في وصف المعترضين عليه: إن المجتهد لا يعترض عليه في اُموره الاجتهادية، لكن اُولئك الملاعين المعترضون لا فهم لهم بل ولا عقل[22].
وقد قرروا في بحث العدالة أن الصحابة عدول إلى وقوع الفتن. أما بعد ذلك فلابد من البحث عمّن ليس ظاهر العدالة، هذا هو أحد الأقوال[23].
ولا نريد التعرض لجميع الأقوال التي وصفوا بها الصحابة الذين اشتركوا في معارضة عثمان، وحرّضوا الناس عليه.
الثانية: إن الشيعة لا تتكتّم في بغض من عادى علياً، فإن مبغض علي منافق بنص الحديث الشريف: «يا عليّ لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق» وإن المنافقين لفي الدرك الأسفل من النار، وقد ثبت أن بعض من وسموا بالصحبة كانوا يبغضون علياً(عليه السلام) ويسبّونه. وقد اشتهر ذلك عنهم:
فالله يشهد إنا لا نحبهم***لله لانختشي في ذاك من غضبا
وبدون شك أن معاوية وحزبه كانت تتجلى بهم صفة البغض لعليّ وأهل البيت أجمع، وقد قابلوه بالعداء وأعلنوا الحرب عليه.
كما أعلن معاوية وجعله سنّة، وتتبع أنصارهم من الصحابة والتابعين، فأذاقهم أنواع الأذى والمحن، وجرعهم الغصص وقتلهم تحت كل حجر ومدر بما لا حاجة إلى بيانه; على أن أعماله لا يمكن السكوت عنها، ولا طريق إلى حملها على وجه صحيح.
وليس من الإنصاف، أن يقال: إن معاوية مجتهد متأوّل، وقد عطل الحدود، وأبطل الشهود، وقتل النفس المحرمة. وسبى نساء المسلمين، وعرضهم في الأسواق، فيكشف عن سوقهن، فأيتهن كانت أعظم ساقاً اشتريت على عظم ساقها[24] ، إلى كثير من تلك الفظائع والفجائع.
وهذا أبو الغادية الجهني، كان من الصحابة، وممّن سمع النبي(صلى الله عليه وآله)، وروى عنه، وهو أحد رواة حديث: «يا عمار تقتلك الفئة الباغية». وهو الذي قتل عمار بن ياسر رضوان الله عليه. وقد أنكر الناس عليه ارتكابه لهذه الجريمة، واعترف هو على نفسه بأنه من أهل النار، وكان يقول: والله لو أن عماراً قتله أهل الأرض لدخلوا النار[25].
فكيف يتهم بالخروج عن الدين من تبرّأ من هذا المجرم الذي اعترف على نفسه بأنه عدو الله، ولكن بعض المحدثين تأوّلوا له ذلك، وأنه مجتهد أخطأ ويلزم حسن الظن بالصحابة[26].
ونحن لا نعرف هذا المنطق الذي يقضي بطرح الأحكام، وهجر الكتاب في جانب حسن الظن بالصحابة والسكوت عما ارتكبوه.
وهل يسوغ لنا السكوت عن أعمال بسر وموبقاته؟ إذ وسم بالصحبة أيضاً، وهو قائد جيش معاوية. وقد ارتكب جرائم لم يشهد التاريخ مثلها فظاعة، حتّى أنكرت النساء عليه عندما دخل اليمن، وقتل الشيوخ والأطفال وسبى النساء، فقالت له امرأة من كندة: يا ابن ارطأة إن سلطاناً لا يقوم إلاّ بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام إنه لسلطان سوء[27].
فكيف يسوغ لنا السكوت عن أعمال بسر، ونصم أسماعنا عن صوت ثكلى تردد نغماتها موجات الحق، وترفع ظلامتها إلى رجال العدل، وتدعو هائمة مذهولة؟!
يا من أحس بابنيّ اللّذين هما***كالدرّتين تشظّى عنهما الصدفُ
يا من أحس بابنيّ اللّذين هما***سمعيوعقلي فعقلي اليوم مختطفُ
من دلّ والدةً حيرى مدلّهةً***على صبيّين ذلاّ إذ غدا السلفُ
نُبئت بسراً وما صدّقت مازعموا***من إفكهم ومن الإثم الذي اقترفوا
أحنى على ودجي ابنيّ مرهفة***مشحوذة وكذاك الإثم يُقترفُ
فهذا صوت يبعث في القلب شجى، وفي العين قذى، يصدر من اُم والهة ـ وهي زوجة عبيد الله بن العباس ـ فقدت ولديها وهما قثم وعبدالرحمن. أخذهما بسر بن أرطأة وهما صغيرين، فذبحهما بين يدي اُ مّهما، فهامت على وجهها مذهولة، فكانت تأتي الموسم وتنشد هذا الشعر وتهيم على وجهها[28].
إذاً ، فليس من الحق أن يؤاخذ المسلم عندما يغضب لسماع صوتها وينسب الظلم لمن قتل ولديها فيرمى بالزندقة والإلحاد، لأنه طعن على معاوية، إذ القتل بأمره وهو صحابي، وله في ذلك اجتهاد مقبول أو تأويل صحيح، إذاً ليجري معاوية في ميدان الحياة وليفعل ما شاءت له نفسه، فقد ضربت الصحبة عليه حصانة لا يمكن مؤاخذته فليأمن من كل خطر وليسفك الدماء، وليقتل على الظنّة والتهمة، فقد انهارت الحواجز كلّها في وجهه واندكت العقبات أمامه، فلا تشمله تلك النظم والأحكام التي قرّرها الشارع المقدس، وفيها سعادة البشر ونظام الحياة، لأنه صحابيوله حرية التصرف في الأحكام.
ولو كان له ذلك لما أنكر الصحابة عمله، وفي طليعتهم الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، فقد أعلن للملأ انحراف سيرة معاوية ومخالفته لنظم الدين.
وقد أنكرت عائشة على معاوية قتله لحجر وأصحابه وغضبت عليه ومنعته من الدخول عليها ولم تقبل بأعذاره، إذ قال: إن في قتلهم صلاحاً للاُ مّة، وفي مقامهم فساداً للاُ مّة، فقالت: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله): سيقتل بعذراء اناس يغضب الله لهم وأهل السماء»[29].
خلاصة البحث
إن اللعن مفهوم يختلف عن السبّ والشتم لغوياً وشرعياً، وإن اللعن ضرورة عقائدية تساوق مفهوم الولاء لأولياء الله والعداء لأعداء الله. وإن القرآن الكريم قد استعمله بحق أهل الكتاب تارة، وبحق عموم الكفار تارة اُخرى، وبحق المنافقين ثالثة، وبحق أفراد من المسلمين ارتكبوا مخالفات شرعية كبرى رابعة، وأن النبي(صلى الله عليه وآله) قد مارسه في المورد الرابع الخاص بالمسلمين أكثر من سائر الموارد، وإن الصحابة لهم في ذلك آثار مروية في التاريخ، وأن اللعن يجري على الأنواع والأشخاص معاً، وأن أتباع أهل البيت(عليهم السلام)لا يلعنون جميع الصحابة كما اُ تّهموا بذلك وإنّما يلعنون من لعنه الله والرسول(صلى الله عليه وآله)، وإن اللعن بحق شخص معيّن إذا كان ناشئاً عن اجتهاد فهو لا يدخل في باب المعصية فضلاً عن أن يؤدي إلى الكفر، وإن تكفير الشيعة بتهمة سبّ الصحابة ظاهرة لا أساس لها من الشرعية في الإسلام، وإنّما جرى عليه بعض فقهاء السلاطين ليتزلّفوا به إلى الحكّام وليوقعوا الفتنة بين المسلمين.
_________________________________
[1] الصواعق الإلهية: 33 تحقيق دار الهداية.
[2] الصواعق الإلهية : 85.
[3] الأنعام: 159.
[4] البقرة: 286 .
[5] الأحزاب: 5.
[6] الصواعق الإلهية : 85 تحقيق دار الهداية.
[7] الصواعق الإلهية: 80 ـ 81.
[8] الصافات: 12.
[9] النساء: 10.
[10] الصواعق الإلهية: 83 ـ 84.
[11] الصواعق الإلهية : 84.
[12] الإمام الصادق والمذاهب الأربعة: 2/614 ـ 623 .
[13] الكامل: 9 / 110.
[14] الكفاية للخطيب البغدادي: 49.
[15] الصارم المسلول: 575.
[16] رسائل ابن عابدين: 1/364.
[17] انظر هذا البحث القيّم الذي نشرته مجلة رسالة الإسلام الصادرة عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية تحت عنوان (بيان المسلمين) ص 227 ـ 228 السنة الثانية العدد الثالث.
[18] ذكر منهم سيدنا شرف الدين في كتاب المراجعات مائة رجل، وذكر العلاّمة الأميني في كتاب الغدير في ج3 عدداً وافراً منهم. وبأيدينا قائمة تقارب ثلاثمائة رجل قد اعتمد رجال الصحاح عليهم «بقلم اسد حيدر، في كتابه الإمام الصادق والمذاهب الأربعة». وأوعب كل ذلك الشيخ محمد جعفر المروّج الطبسي النجفي في كتابه: رجال الشيعة في أسناد السنة.
[19] رسائل ابن عابدين: 2/169.
[20] تاريخ ابن كثير: 1/176.
[21] منهاج السنّة: 2/191 ـ 206.
[22] الصواعق المحرقة لابن حجر: 68.
[23] شرح ألفية العراقي: 4/36.
[24] الاستيعاب: 1/157.
[25] اُسد الغابة: 5 ـ 267 .
[26] الإصابة: 4 ـ 151.
[27] الكامل لابن الأثير: 3/195.
[28] الإستيعاب: 1/156، والكامل لابن الأثير: 3/195.
[29] تاريخ ابن كثير: 8 ـ 55.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق