من
أهم الإشكالات والشبهات التي تواجه النظرية الإطلاقية – أي ان علمهم مطلق
لا يغيب عنهم شيئا ــ هي أن هذا الرأي يستلزم لازماً فاسداً بالاتفاق، فلا
بد من رفع اليد عن القول: بأن علمهم عليهم السلام مطلق وحاضر.
محصل هذه الشبهة
وحاصل هذه الشبهة هو: لا خلاف في أن أكثر الأئمة عليهم السلام خرجوا من الدنيا قتلاً بالسيف أو السم، كما هو الحال في أمير المؤمنين، والإمام الحسن بن علي، وأخيه الحسين عليهم السلام، بل هناك رأي اختاره مشهور علماء الإمامية، وهو أن جميع الأئمة عليهم السلام قد قتلوا من قِبَل أعدائهم، ولم يمُتْ أحد منهم ميتة طبيعية، وقد وردت روايات كثيرة تقول:«...ما منَّا إلا مقتول شهيد»([1])، أو: «ما منَّا إلا مقتول أو مسموم»([2])، مما يُنبِّه على أن جميع الأئمة عليهم السلام قد أُزهقت أنفسهم على أيدي الظلمة.
وقد ذكر العلامة الطباطبائي هذه الشبهة بقوله:«... تظافرت الأخبار من طرق أئمة أهل البيت، أن الله سبحانه علَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام علم كل شيء، وفسر ذلك في بعضها أن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق الوحي، وأن علم الأئمة عليهم السلام ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
... وقد أُصيبوا بمصائب ليس من الجائز أن يلقي الإنسان نفسه في مهلكتها لو علم بواقع الأمر، كما أُصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أُحد بما أُصيب، وأُصيب علي عليه السلام في مسجد الكوفة، حين فتك به المرادي لعنه الله، وأُصيب الحسين عليه السلام فقتل في كربلاء، وأُصيب سائر الأئمة بالسم، فلو كانوا يعلمون ما سيجري عليهم؛ كان ذلك من إلقاء النفس في التهلكة، وهو محرم...» ([3]).
وكيف كان، فيكفينا أن نتمسك بما جرى على الإمام الحسين عليه السلام، حيث إن القائل بكون علمهم عليهم السلام مطلقاً وحاضراً، يعتقد بأن ذلك سارٍ في جميع الأئمة عليهم السلام، فلو أبطلناه في أحدهم بطل في الجميع.
الجواب عن هذه الشبهة
وفي مقام الإجابة على ذلك، ذكر علماؤنا عدة أجوبة، كان منها سديداً مرضياً، وبعضها الآخر قابلا للنقاش، بل هو خروج عن محل الكلام؛ لأنه التجأ إلى تبني نظرية أُخرى؛ فراراً من المحذور المذكور في المقام، وقد أشبع هذا البحث تفصيلا بعض المحققين في كتاب خاص ذكر فيه عدة أجوبة، نذكرها باختصار خوفاً من الإطالة:
فنقول: إن العلم بوقت مقتلهم لا يلزم منه ما توهم من محذور، بل مع الالتزام بما ذكرنا، من كون علمهم حاضر وفعلي يمكن التخلص مما أشكل فهمه على الخصم، وذلك بأن نقول:
الجواب الأول: ان الله خيرهم بين البقاء أو الموت وعلموا ان مرضاة الله في لقائه فاختاروه واختيار ما اختاره الله كمال مرغوب فيه:
إنهم عليهم السلام يعلمون بوقت مقتلهم، وبشخص قاتلهم أيضاً، لكنهم إنما أقدموا على ذلك؛ لأنهم خُيِّروا بين البقاء في الحياة، وبين لقاء الله عز وجل، فاختاروا لقاء الله عز وجل، والسر في اختيارهم، هو أنَّ تمني الموت أمر مرغوب لله تعالى؛ ولكونه علامة لمَن كان عالماً بأن عاقبة أمره إلى الجنة، أو من علامات أولياء الله عز وجل؛ كما دل عليه قوله عزَّ مِن قائل: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ([4]). أو قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ([5]).
النبي بشهادة الخصم خير بين البقاء أو لقاء الله فاختار لقاء الله فهل هذا انتحار؟
بل ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استأذن منه ملك الموت بقبض روحه، فأذن له ([6])، فهل معنى هذا أن النبي - والعياذ بالله - ألقى بنفسه إلى التهلكة؛ لقبوله ذلك وعدم رفضه الموت؟! فكان له أن يختار الحياة، فيبقى حياً، مع أنه اختار الموت، ولا قائل بين المسلمين كافة، بأن هذا مستلزم للإلقاء بالنفس إلى التهلكة، ومنه نستكشف أن إقدام الأئمة عليهم السلام على الموت، مع العلم به كان نتيجة لمقايسة بين البقاء في الدنيا، أو تحصيل الأجر العظيم بنيل الشهادة، فاختاروا الشهادة؛ لعلمهم أن الموت لا بد وأن يأتي، فلا مفرَّ منه؛ إذ أنهم يعلمون بأنهم لو خُيِّروا واختاروا البقاء ليس معناه أنهم مخلدون في الدنيا ([7])، أو أنهم عليهم السلام أمروا بالتسليم لأمر الله عز وجل، وقبول هذا السبب وهذا الأجل، كما قال الكجوري في خصائصه: «... وكذا كان علم الأئمة الطاهرين بالسموم المهلكة التي تناولوها، ومعرفتهم بالقاتل، فهم يعلمون بالعلم الباطن، إلا أنهم (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، فتلك الواردات كانت بحسب اختلاف الحالات» ([8]).
أحاديث تؤيد هذا القول
ويؤيد الشق الأول مما ذكرنا في هذا الوجه، ما ورد عن عبد الملك بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:«أنزل الله تعالى النصر على الحسين عليه السلام، حتى كان ما بين السماء والأرض، ثم خُيِّر: النصر، أو لقاء الله، فاختار لقاء الله تعالى» ([9]).
وما ورد عن أبي جعفر عليهم السلام، قال: «عجبت من قوم يتولونا ويجعلونا أئمةً، ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم، كطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يكسرون حجتهم، ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصون حقنا، ويعيبون ذلك على مَن أعطاه الله برهان حق معرفتنا والتسليم لأمرنا ! أترون أن الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده، ثم يُخفي عنهم أخبار السماوات والأرض، ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم؟!
فقال له حمران: جُعلت فداك، أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام، وخروجهم، وقيامهم بدين الله عزَّ ذِكرُه، وما أُصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قُتِلوا وغُلبوا؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: يا حمران، إن شاء الله تبارك وتعالى قد كان قدَّر ذلك عليهم وقضاه، وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار (وفي نسخة الاختبار) ثم أجراه، فبتقدُّم علم إليهم - من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - قام علي والحسن والحسين، وبعلمٍ صمت مَن صمت منَّا، ولو أنهم - يا حمران - حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله عزَّ وجل، وإظهار الطواغيت عليهم، سألوا الله عزَّ وجل أن يدفع عنهم ذلك، وألحُّوا عليه في طلب إزالة مُلك الطواغيت وذهاب ملكهم، إذاً لأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب مُلكهم أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدَّد، وما كان ذلك الذي أصابهم - يا حمران - لذنب اقترفوه، ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها، ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلغوها، فلا تذهبنَّ بك المذاهب فيهم» ([10]).
الجواب الثاني: الشريعة أوجبت في بعض الأحيان إلقاء النفس في الموت كما في الجهاد:
إن المحرم في الشريعة والعقل ليس هو مطلق إلقاء النفس بالتهلكة، بل في بعض الموارد قد يكون الإلقاء واجباً على الإنسان شرعاً، كما في الجهاد الذي يعلم معه المكلف إلى درجة عالية بأنه سوف يُقتل، ولكن مع ذلك لم يقل أحد: بأن هذا النوع من الجهاد هو إلقاء بالنفس في التهلكة.
الجواب الثالث: الإلقاء في التهلكة شرعا هو إتلاف النفس على أمر لا يستحق ذلك وأهل البيت قتلوا في سبيل أهداف إلهية سامية:
إن إقدام الأئمة عليهم السلام على القتل بالكيفية التي علموا بها واختيارهم لذلك ليس إلقاءً في التهلكة؛ لكون الإلقاء في التهلكة -عرفاً وشرعاً - هو هدر الإنسان نفسه وإتلافها في سبيل شيء لا يستحق ذلك، أما ما يستحق - أو ما يستوجب - ذلك، فلا ريب في أنه ليس إلقاءً في التهلكة، كالجهاد في سبيل الله، والدفاع عن النفس، والعرض، والمال، فإن فاعله يستحق المدح والثناء عرفاً وشرعاً.
قال الجلالي في مقالته: (... أن تسمية الفعل الذي يقدم عليه الفاعل المختار سوءاً أو هلكة، إنما يتبع المفسدة الموجودة في ذلك الفعل، فإذا خلا الفعل في نظر فاعله عن المفسدة، أو ترتبت عليها مصلحة أقوى وأهم في نظره من المفسدة، لم يُسمَ سوءاً ولا هلكة. فليس لهذه العناوين واقعاً ثابتاً؛ حتى يقال: إن ما أقدم عليه الأئمة هو سوء وهلكة، بل هي أمور نسبية تتبع الأهداف والأغراض والنيات، بل يراعى في تسميتها الأهم، فرب نفع في وقت هو ضرر في آخر، ورب ضرر لشخص هو نفع لآخر. قال تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم... وقال تعالى: فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً... هذا في المنظور الدنيوي المادي، وأما في المنظار الإلهي والمثالي، وعالم المعنويات، فالأمر أوضح من أن يُذكر أو يُكرر، فهؤلاء الأبطال الذين يقتحمون الأهوال، ويسجلون البطولات في سبيل أداء واجباتهم الدينية والعقيدية، أو الوطنية والوجدانية، أو الشرف، إنما يقدمون على ما فيه فخرهم، مع أنهم يحتضنون الموت ويعتنقون الفناء، لكنه في نظرهم الحياة والبقاء ([11]).
الجواب الرابع: اختيار المعصوم للقتل في سبيل الله على البقاء تقديم للأهم على المهم وهو ممدوح شرعا وعرفا:
لا شك ولا ريب أن هناك قاعدة عقلية اعتمد عليها علماء المسلمين في موارد كثيرة([12])، وهي: (ترجيح الأهم على المهم)، ومعناها: أنه لو دار الأمر بين حفظ شيء مهم أو أهم منه، فإن الواجب هو حفظ الأهم عند العقلاء، والعقل، والشرع، فلو دار الأمر بين بقاء المكلف حياً أو يتقي ما توجه للمعصوم من خطر القتل، فالجميع يعتبر إقدام المكلف على الموت أمراً راجحاً - بل واجباً - اختياره، فلو كان المكلف في معركة في الصف الذي يقاتل فيه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ورأى سهماً توجه إلى النبي، فاتقاه بصدره، فلا إشكال ولا شبهة في أن إقدامه ليس إلقاءً في التهلكة؛ لكون الإلقاء في التهلكة هو هدر الإنسان نفسه وإتلافها في سبيل شيء لا يستحق ذلك، كما تقدم في الوجه المتقدم.
إلى غير ذلك من الأجوبة الكثيرة التي سُجِّلت في مقام الإجابة على هذه الشبهة الواضحة الدفع، ثم إن هذه الشبهة أخذت مأخذها في الأوساط الإسلامية على مرِّ التأريخ، وقد أجاب عنها علماؤنا الأعلام مراراً وتَكراراً في كتبهم، بل أُلّف فيها كتاباً خاصاً، تحت عنوان (شبهة إلقاء المعصوم نفسه في التهلكة ودحضها)، وقد أشبع هذا الموضوع بحثاً علمياً، يلقم الخصم حجراً.
بقلم: الشيخ صباح عباس حسن الساعدي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص585. والأمالي، ص120، وعيون أخبار الرضا، ج1، ص287. وأيضاً: النيسابوري، الفتال، روضة الواعظين، ص233.
([2]) الخزاز القمي، علي بن محمد، كفاية الأثر، 162.
([3]) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج18، ص 192.
([4]) البقرة: 94.
([5]) الجمعة: 6.
([6]) أُنظُر: الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، ص349. وأيضاً: النيسابوري، الفتال، روضة الواعضين، ص72.
([7]) لقد ذكر بعض المحققين هذا الوجه في كتابه، ولكن ببيان آخر، واستشهد عليه بآيات أخرى أيضاً.
أُنظُر: حمُّود، محمد جميل، شبهة إلقاء المعصوم نفسه في التهلكة ودحضها، ج1، ص28.
([8]) الكجوري، محمد باقر، الخصائص الفاطمية، ص 199.
([9]) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص260.
([10]) المصدر السابق، ص 262.
([11]) الجلالي، محمد رضا، علم الأئمة بالغيب...، مجلة تراثنا، ج 37، ص 18.
([12]) أُنظُر: الرازي، الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج21، ص119.
وأيضاً: الخميني، روح الله، كتاب الطهارة، ج2، ص81.
وأيضاً: الخوئي، أبو القاسم، كتاب النكاح، ج1، شرح ص146. وأيضاً: البهبهاني، علي، الفوائد العلية، ج2، ص440.
محصل هذه الشبهة
وحاصل هذه الشبهة هو: لا خلاف في أن أكثر الأئمة عليهم السلام خرجوا من الدنيا قتلاً بالسيف أو السم، كما هو الحال في أمير المؤمنين، والإمام الحسن بن علي، وأخيه الحسين عليهم السلام، بل هناك رأي اختاره مشهور علماء الإمامية، وهو أن جميع الأئمة عليهم السلام قد قتلوا من قِبَل أعدائهم، ولم يمُتْ أحد منهم ميتة طبيعية، وقد وردت روايات كثيرة تقول:«...ما منَّا إلا مقتول شهيد»([1])، أو: «ما منَّا إلا مقتول أو مسموم»([2])، مما يُنبِّه على أن جميع الأئمة عليهم السلام قد أُزهقت أنفسهم على أيدي الظلمة.
وقد ذكر العلامة الطباطبائي هذه الشبهة بقوله:«... تظافرت الأخبار من طرق أئمة أهل البيت، أن الله سبحانه علَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام علم كل شيء، وفسر ذلك في بعضها أن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق الوحي، وأن علم الأئمة عليهم السلام ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
... وقد أُصيبوا بمصائب ليس من الجائز أن يلقي الإنسان نفسه في مهلكتها لو علم بواقع الأمر، كما أُصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أُحد بما أُصيب، وأُصيب علي عليه السلام في مسجد الكوفة، حين فتك به المرادي لعنه الله، وأُصيب الحسين عليه السلام فقتل في كربلاء، وأُصيب سائر الأئمة بالسم، فلو كانوا يعلمون ما سيجري عليهم؛ كان ذلك من إلقاء النفس في التهلكة، وهو محرم...» ([3]).
وكيف كان، فيكفينا أن نتمسك بما جرى على الإمام الحسين عليه السلام، حيث إن القائل بكون علمهم عليهم السلام مطلقاً وحاضراً، يعتقد بأن ذلك سارٍ في جميع الأئمة عليهم السلام، فلو أبطلناه في أحدهم بطل في الجميع.
الجواب عن هذه الشبهة
وفي مقام الإجابة على ذلك، ذكر علماؤنا عدة أجوبة، كان منها سديداً مرضياً، وبعضها الآخر قابلا للنقاش، بل هو خروج عن محل الكلام؛ لأنه التجأ إلى تبني نظرية أُخرى؛ فراراً من المحذور المذكور في المقام، وقد أشبع هذا البحث تفصيلا بعض المحققين في كتاب خاص ذكر فيه عدة أجوبة، نذكرها باختصار خوفاً من الإطالة:
فنقول: إن العلم بوقت مقتلهم لا يلزم منه ما توهم من محذور، بل مع الالتزام بما ذكرنا، من كون علمهم حاضر وفعلي يمكن التخلص مما أشكل فهمه على الخصم، وذلك بأن نقول:
الجواب الأول: ان الله خيرهم بين البقاء أو الموت وعلموا ان مرضاة الله في لقائه فاختاروه واختيار ما اختاره الله كمال مرغوب فيه:
إنهم عليهم السلام يعلمون بوقت مقتلهم، وبشخص قاتلهم أيضاً، لكنهم إنما أقدموا على ذلك؛ لأنهم خُيِّروا بين البقاء في الحياة، وبين لقاء الله عز وجل، فاختاروا لقاء الله عز وجل، والسر في اختيارهم، هو أنَّ تمني الموت أمر مرغوب لله تعالى؛ ولكونه علامة لمَن كان عالماً بأن عاقبة أمره إلى الجنة، أو من علامات أولياء الله عز وجل؛ كما دل عليه قوله عزَّ مِن قائل: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ([4]). أو قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ([5]).
النبي بشهادة الخصم خير بين البقاء أو لقاء الله فاختار لقاء الله فهل هذا انتحار؟
بل ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استأذن منه ملك الموت بقبض روحه، فأذن له ([6])، فهل معنى هذا أن النبي - والعياذ بالله - ألقى بنفسه إلى التهلكة؛ لقبوله ذلك وعدم رفضه الموت؟! فكان له أن يختار الحياة، فيبقى حياً، مع أنه اختار الموت، ولا قائل بين المسلمين كافة، بأن هذا مستلزم للإلقاء بالنفس إلى التهلكة، ومنه نستكشف أن إقدام الأئمة عليهم السلام على الموت، مع العلم به كان نتيجة لمقايسة بين البقاء في الدنيا، أو تحصيل الأجر العظيم بنيل الشهادة، فاختاروا الشهادة؛ لعلمهم أن الموت لا بد وأن يأتي، فلا مفرَّ منه؛ إذ أنهم يعلمون بأنهم لو خُيِّروا واختاروا البقاء ليس معناه أنهم مخلدون في الدنيا ([7])، أو أنهم عليهم السلام أمروا بالتسليم لأمر الله عز وجل، وقبول هذا السبب وهذا الأجل، كما قال الكجوري في خصائصه: «... وكذا كان علم الأئمة الطاهرين بالسموم المهلكة التي تناولوها، ومعرفتهم بالقاتل، فهم يعلمون بالعلم الباطن، إلا أنهم (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، فتلك الواردات كانت بحسب اختلاف الحالات» ([8]).
أحاديث تؤيد هذا القول
ويؤيد الشق الأول مما ذكرنا في هذا الوجه، ما ورد عن عبد الملك بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:«أنزل الله تعالى النصر على الحسين عليه السلام، حتى كان ما بين السماء والأرض، ثم خُيِّر: النصر، أو لقاء الله، فاختار لقاء الله تعالى» ([9]).
وما ورد عن أبي جعفر عليهم السلام، قال: «عجبت من قوم يتولونا ويجعلونا أئمةً، ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم، كطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يكسرون حجتهم، ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصون حقنا، ويعيبون ذلك على مَن أعطاه الله برهان حق معرفتنا والتسليم لأمرنا ! أترون أن الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده، ثم يُخفي عنهم أخبار السماوات والأرض، ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم؟!
فقال له حمران: جُعلت فداك، أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام، وخروجهم، وقيامهم بدين الله عزَّ ذِكرُه، وما أُصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قُتِلوا وغُلبوا؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: يا حمران، إن شاء الله تبارك وتعالى قد كان قدَّر ذلك عليهم وقضاه، وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار (وفي نسخة الاختبار) ثم أجراه، فبتقدُّم علم إليهم - من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - قام علي والحسن والحسين، وبعلمٍ صمت مَن صمت منَّا، ولو أنهم - يا حمران - حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله عزَّ وجل، وإظهار الطواغيت عليهم، سألوا الله عزَّ وجل أن يدفع عنهم ذلك، وألحُّوا عليه في طلب إزالة مُلك الطواغيت وذهاب ملكهم، إذاً لأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب مُلكهم أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدَّد، وما كان ذلك الذي أصابهم - يا حمران - لذنب اقترفوه، ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها، ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلغوها، فلا تذهبنَّ بك المذاهب فيهم» ([10]).
الجواب الثاني: الشريعة أوجبت في بعض الأحيان إلقاء النفس في الموت كما في الجهاد:
إن المحرم في الشريعة والعقل ليس هو مطلق إلقاء النفس بالتهلكة، بل في بعض الموارد قد يكون الإلقاء واجباً على الإنسان شرعاً، كما في الجهاد الذي يعلم معه المكلف إلى درجة عالية بأنه سوف يُقتل، ولكن مع ذلك لم يقل أحد: بأن هذا النوع من الجهاد هو إلقاء بالنفس في التهلكة.
الجواب الثالث: الإلقاء في التهلكة شرعا هو إتلاف النفس على أمر لا يستحق ذلك وأهل البيت قتلوا في سبيل أهداف إلهية سامية:
إن إقدام الأئمة عليهم السلام على القتل بالكيفية التي علموا بها واختيارهم لذلك ليس إلقاءً في التهلكة؛ لكون الإلقاء في التهلكة -عرفاً وشرعاً - هو هدر الإنسان نفسه وإتلافها في سبيل شيء لا يستحق ذلك، أما ما يستحق - أو ما يستوجب - ذلك، فلا ريب في أنه ليس إلقاءً في التهلكة، كالجهاد في سبيل الله، والدفاع عن النفس، والعرض، والمال، فإن فاعله يستحق المدح والثناء عرفاً وشرعاً.
قال الجلالي في مقالته: (... أن تسمية الفعل الذي يقدم عليه الفاعل المختار سوءاً أو هلكة، إنما يتبع المفسدة الموجودة في ذلك الفعل، فإذا خلا الفعل في نظر فاعله عن المفسدة، أو ترتبت عليها مصلحة أقوى وأهم في نظره من المفسدة، لم يُسمَ سوءاً ولا هلكة. فليس لهذه العناوين واقعاً ثابتاً؛ حتى يقال: إن ما أقدم عليه الأئمة هو سوء وهلكة، بل هي أمور نسبية تتبع الأهداف والأغراض والنيات، بل يراعى في تسميتها الأهم، فرب نفع في وقت هو ضرر في آخر، ورب ضرر لشخص هو نفع لآخر. قال تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم... وقال تعالى: فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً... هذا في المنظور الدنيوي المادي، وأما في المنظار الإلهي والمثالي، وعالم المعنويات، فالأمر أوضح من أن يُذكر أو يُكرر، فهؤلاء الأبطال الذين يقتحمون الأهوال، ويسجلون البطولات في سبيل أداء واجباتهم الدينية والعقيدية، أو الوطنية والوجدانية، أو الشرف، إنما يقدمون على ما فيه فخرهم، مع أنهم يحتضنون الموت ويعتنقون الفناء، لكنه في نظرهم الحياة والبقاء ([11]).
الجواب الرابع: اختيار المعصوم للقتل في سبيل الله على البقاء تقديم للأهم على المهم وهو ممدوح شرعا وعرفا:
لا شك ولا ريب أن هناك قاعدة عقلية اعتمد عليها علماء المسلمين في موارد كثيرة([12])، وهي: (ترجيح الأهم على المهم)، ومعناها: أنه لو دار الأمر بين حفظ شيء مهم أو أهم منه، فإن الواجب هو حفظ الأهم عند العقلاء، والعقل، والشرع، فلو دار الأمر بين بقاء المكلف حياً أو يتقي ما توجه للمعصوم من خطر القتل، فالجميع يعتبر إقدام المكلف على الموت أمراً راجحاً - بل واجباً - اختياره، فلو كان المكلف في معركة في الصف الذي يقاتل فيه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ورأى سهماً توجه إلى النبي، فاتقاه بصدره، فلا إشكال ولا شبهة في أن إقدامه ليس إلقاءً في التهلكة؛ لكون الإلقاء في التهلكة هو هدر الإنسان نفسه وإتلافها في سبيل شيء لا يستحق ذلك، كما تقدم في الوجه المتقدم.
إلى غير ذلك من الأجوبة الكثيرة التي سُجِّلت في مقام الإجابة على هذه الشبهة الواضحة الدفع، ثم إن هذه الشبهة أخذت مأخذها في الأوساط الإسلامية على مرِّ التأريخ، وقد أجاب عنها علماؤنا الأعلام مراراً وتَكراراً في كتبهم، بل أُلّف فيها كتاباً خاصاً، تحت عنوان (شبهة إلقاء المعصوم نفسه في التهلكة ودحضها)، وقد أشبع هذا الموضوع بحثاً علمياً، يلقم الخصم حجراً.
بقلم: الشيخ صباح عباس حسن الساعدي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص585. والأمالي، ص120، وعيون أخبار الرضا، ج1، ص287. وأيضاً: النيسابوري، الفتال، روضة الواعظين، ص233.
([2]) الخزاز القمي، علي بن محمد، كفاية الأثر، 162.
([3]) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج18، ص 192.
([4]) البقرة: 94.
([5]) الجمعة: 6.
([6]) أُنظُر: الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، ص349. وأيضاً: النيسابوري، الفتال، روضة الواعضين، ص72.
([7]) لقد ذكر بعض المحققين هذا الوجه في كتابه، ولكن ببيان آخر، واستشهد عليه بآيات أخرى أيضاً.
أُنظُر: حمُّود، محمد جميل، شبهة إلقاء المعصوم نفسه في التهلكة ودحضها، ج1، ص28.
([8]) الكجوري، محمد باقر، الخصائص الفاطمية، ص 199.
([9]) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص260.
([10]) المصدر السابق، ص 262.
([11]) الجلالي، محمد رضا، علم الأئمة بالغيب...، مجلة تراثنا، ج 37، ص 18.
([12]) أُنظُر: الرازي، الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج21، ص119.
وأيضاً: الخميني، روح الله، كتاب الطهارة، ج2، ص81.
وأيضاً: الخوئي، أبو القاسم، كتاب النكاح، ج1، شرح ص146. وأيضاً: البهبهاني، علي، الفوائد العلية، ج2، ص440.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق