ينمي
مؤرخة الغرب معارضة بني أميه لبني علي ( عليه السلام ) إلى زمن أبعد مدىً
مما اشتهر ، و إلى قطيعة حدثت بين هاشم و شقيقه عبد شمس ولدي عبد مناف
القرشي . و كانت المعارضة إذ ذاك بينهما فقط ، ثم تفشت بعد مائة عام بين
حزبين قويين : حزب التوحيد و عميده المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) ، و
حزب الشرك و أقطابه أبو سفيان و أبو جهل و الحكم و الوليد و خمسة عشر آخرون
. و بقيت نار الجدال و القتال مستمرة بين الحزبين 19 عاماً حتى اذا جاء
نصر الله و الفتح و دخل الناس في دين الله أفواجاً و دخل معهم هؤلاء طوعاً
أو كرهاً ، فخمدت تلك النار الموقدة إلاّ في الأفئدة بضعاً و ثلاثين سنة
حتى استثارها مروان في إمارة عثمان و أثار مع الحفائظ نيران الفتن و الإحن .
و عميد الحزب الهاشمي علي ( عليه السلام ) رجل الحق و في أنصاره المهاجرون و أبطال مصر و العراقيين و شعارهم الحق ، و الفضيلة ، و حفظ الحرمات ، كما أقام الجانب المعارض أمره على دعائم الغدر ، و المكر ، و طلب الملك ، و الشهوات هم معاوية و زياد بن أبيه و عمرو بن العاص و مروان و المغيرة بن شعبة و أشباههم . فاستخدموا في سبيل الانتصار كل وسيلة و حيلة زهاء ربع قرن ملؤه الفجائع و الفظايع حتى احتجب الحق و توارى أهله ، و فاز ابن أبي سفيان و أهلوه في كل منكر فعلوه حتى في إقامة الجمعة في غير يومها و حتى في استلحاق زياد و استخلاف يزيد 1 و حتى . . و حتى . . استنوقوا الجمل و ظنوا موت الحق ، و لكن الحق حي لا يموت . هناك دعى طغيان الغرور يزيد الجور و الفجور أن يطالب أباه باقتران أُرينب « أم خالد » ربة الخدر و الجمال و هي متبعلة بزوجها عبد الله .
قالوا : إنّ يزيد بن معاوية كان يتحرّى أخبار الفتيات الحسان فبلغه من وصف أُرينب بنت إسحاق القرشي و كمال جمالها ما استثار هواه و ظلّ يترقّب فرصة إعلام أبيه برغبته إليها فيزوجها منه ، فسمع يوماً بزواجها من ابن عمها عبد الله بن سلام فشق عليه ذلك و أبلغ أباه معاوية بما هو فيه و أنّه مشرف على الهلكة من خيبة الأمل ، فأمره أبوه أن يكتم رغبته حتى يتمكن من استدراك ما فاته ! ثم استدعى عبد الله بن سلام إلى الشام و أكرم ضيافته و أرسل إليه أبا هريرة ليرغبه إلى مصاهرة معاوية و تزويج أخت يزيد إياه ، فرحب عبد الله برغبة معاوية و لبّى هذا الطلب بكل شكر و ثناء ، فرجع أبو هريرة بذلك إلى معاوية ، فقال معاوية : سر يا أبا هريرة إلى ابنتي و أعلمها برغبتي إلى زواجها ، فإنّ الإقدام على ما فيه رضاؤها أحوط و أقرب إلى رضا الله تعالى .
و كان معاوية قد بيّت الكلام مع ابنته و علّمها الذي تقوله في الجواب . و لما أتاها أبو هريرة بمقالة أبيها معاوية و امتدح عندها عبد الله بن سلام أجابت بأنّها لا تأبى ما اختاروا لها لو لا أنها تخشى وجود زوجته « اُرينب » فيدركها ما يدرك المرأة من ضرّتها ممّا يغضب الله و يغضب أباها ، فخرج أبو هريرة إلى عبد الله بن سلام بالخبر و استقر رأيهم على طلاق اُرينب فطلقها عبد الله بن سلام طمعاً في مصاهرة معاوية و جلالة ملكه ، و بعد ما توثق معاوية من طلاق اُرينب جهز اليها أبا هريره ليخبرها بأمر زوجها عبد الله و أن يزوجها من ابنه يزيد بما شاءت من صداق .
و ظل ابن سلام يطالب معاوية بانجاز ما وعده و معاوية يماطله ، حتى سمع بأنّ مخطوبته تكره قبوله زاعمة أن الذي يطلق ابنة عمه التي فاقت أقرانها مالاً و جمالاً و كمالاً و شرفاً لا يصعب عليه أن يطلق الثانية يوماً ما .
و شاعت مكيدة معاوية في الملأ و أنه يبغي وراء حرمان عبد الله بن سلام من زوجته أُرينب أن يزوجها من يزيد ، و خرج ابن سلام من الشام غضبان أسِفاً .
أما أبو هريرة فمر بالحسين بن علي ( عليه السلام ) في طريقه فسلّم عليه فاحتفل به الحسين ( عليه السلام ) و سأله عما جاء به من الشام فقص عليه خبره فناشده الله أن يذكره عند اُرينب عسى أن ترضى بالحسين زوجاً لها ، فقبل ذلك أبو هريرة و جاء اُرينب و اخبرها بما فعل زوجها عبد الله بن سلام . . بائنة فبكت اُرينب و لما هدأ روعها و استرجعت قال لها أبو هريرة : « إنّك لا تعدمين طلاباً خيراً من عبد الله بن سلام و قد رغب إلى زواجك يزيد بن معاوية و الحسين بن علي ( عليه السلام ) و هما معروفان لديك بأحسن ما تبتغينه في الرجال ، و يبذلان لك ما تشائين من الصداق » ثم لما عاودها على اختيار رأيها في الرجلين قالت : « إنّك خير من استشيره في الأمر فاختر لي » فقال أبو هريرة : « لا اختار فم أحد على فم قبّله رسول الله تضعين شفتيك في موضع شفتي رسول الله » . قالت : « فلا اختار على الحسين بن علي أحداً و هو ريحانة النبي و سيد شباب أهل الجنة » فعقد عليها الحسين . و لما بلغ ذلك معاوية سخط سخطاً شديداً و قال :
أنعمي أُم خالد *** رب ساع لقاعد 2
حنق يزيد على الحسين بن علي حنقاً لا مزيد عليه ، و استوهن الأمر عبد الله بن سلام و خف عليه حزنه و جاء إلى الحسين ( عليه السلام ) و طلب منه أن يسأل اُرينب رد أمانته التي أودعها لديها عند ما سافر إلى الشام و هي خلاصة ما يملكه من دنياه . فجاء الحسين إلى اُرينب و قال لها : « إنّ زوجها عبد الله بن سلام يطالبها بوديعة أودعها لديها » فقالت : « صدق و ها هي وديعته » و أخرجت بدراً مختومة ، فدعا الحسين عبد الله و قال له : « ادخل عليها و استلم وديعتك من يدها كما استلمتها من يدك » . فدخل عبد الله و بكى و بكت معه و استلم الودايع منها سالمة ثم قال لهما الحسين : « ارجعا إلى ما كنتما عليه فإنّي اشهد الله أنها طالقة و أنّي لم ألمسها و ما أدخلتها في بيتي و تحت نكاحي إلاّ محافظة لها من يزيد و من كيد أبيه ، فخذ بيدها و اذهبا حيث شئتما » .
فبكيا من الوجد طويلاً و أرادت اُرينب أن تعيد إلى سيدها الحسين صداقها فوهبها الحسين قائلاً : « إن الذي أرجوه من الله تعالى خير لي من ذلك » ولم يسترجع منها شيئاً كرامة منه و إحساناً .
نعم دفعت سجية الفضيلة حسينها إلى صيانة عرض عبد الله من عدو الله بعد أن عرف من سجاياه هتك الحرمات ، و عرف من سجايا أبيه تبديل آثار جدّه و تبديد مجده ، و تذكر بعد ذلك سم أخيه و سب أبيه ، و مافعلت هند بعمه ، و أذى صخر لجدّه ، و أنّ الذي أضمروه له و لأسرته ـ أو بالأحرى لأُمته ـ في مستقبل الزمن أسوء من ماضيه . كل هذه الذكريات دفعت حسين الشرف إبراز هذه المآثر التاريخية المتلألئة في سماء الفضائل .
لقد أثّرت عملية الحسين ( عليه السلام ) تأثيرها الحسن في نفوس بني الضاد رقاة الشرف و دعاة مكارم الأخلاق ، كما أنها أثارت من يزيد أحقاداً خمد نارها أو كادت فوق ما ذكرته اندحار أبيه أمام جدال الحسن ، و قتال أبيه ، و مصرع عتبة و شيبة و حنظلة و سائر أشياخه ، و الذل الذي لحق جدّه يوم عرض نصرته لعلي ( عليه السلام ) و يوم عرض إسلامه للنبي ( صلى الله عليه و آله ) و عند استجارته بهما في المدينة . . فصمّم من فوره على الانتقام من حسين الفضيلة أشدّ الانتقام حينما أصبحت الأمور له متسقة و الجماهير به مستوثقة و فيهم عبيد الله بن زياد إن لم يكن زياد .
مبادئ قضية الحسين
كل الذين دوّنوا قضية الحسين ( عليه السلام ) أخذوا سلسلتها من أوساطها ، أي من حين البيعة ليزيد . في حين أنّ القضية ـ كما سبق ـ تبتدئ من عهد أبي سفيان و محمّد ( صلى الله عليه و آله ) ـ إن لم نقل من قبل و من عهد هاشم 3 و عبد شمس ـ فإن أبا سفيان جدّ يزيد إذ رأى محمّداً جدّ الحسين قد نهض في مكة سنة 610م يدعو العرب إلى توحيد المعبود و الإتحاد في طاعته ، حسب أنّه سيهدم مجد عبد شمس و رئاستهم و يبني لبني هاشم 4 بيت مجد مرصوص الأساس و يعم ظله الوارف عامة الناس . فاندفع بكل قواه إلى معارضته ففعل ما فعل في مقاومة النبي ( صلى الله عليه و آله ) و إهانته ، و تفريق أعوانه ، و تحشيد الجموع لمحاربته حتى كان في أيام بدر و أُحد و الأحزاب و هما مثالان للحق و الباطل ، و أمرُ محمّد ( صلى الله عليه و آله ) يقوى انتشاره و مناره حتى رمى حزب أبي سفيان آخر نبلة من كنانته ولم يفلح : ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ 5 .
و ذلك أنّ الله سبحانه فتح لنبيه مكة فتحاً مبيناً ، و نصره على قريش نصراً عزيزاً . انتهت الحركة السفيانية ، و لكن في الظاهر .
أمّا الحزب الخاسر المنكسر فقد كان يعمل ليلاً و نهاراً في تلافي خسرانه و ارجاع سلطانه ، و لكن تحت الستار و بأخفى من دبيب النمل على الصفا ، يرسم الخطة للقيام بحركة وسيعة الدائرة حتى إذا قضى النبي ( صلى الله عليه و آله ) نحبه تنفس و انتهز الفرصة لاستعادة مجده .
أجل! لقي محمّد ( صلى الله عليه و آله ) ربه و أبو سفيان حي يسمع الناعية عليه ، و لكن لا يسعه إظهار شيء و كان العباس عم النبي ( صلى الله عليه و آله ) يعرف من أمره شيئاً إذ كان صديقه الحميم في الجاهليه و الإسلام ، فأشار على عليّ ( عليه السلام ) ابن أخيه أبي طالب ـ و هو يغسل جنازة النبي ( صلى الله عليه و آله ) ـ قائلاً له : « يا علي مد يدك لأبايعك حتى يقول الناس : عم رسول الله بايع ابن عمه ، فلا يختلف عليك اثنان » فلم يسمع من ابن أخيه جواباً سوى كلمة : « يا عمّ أولها غيري! » و قبل أن يدفن النبي ( صلى الله عليه و آله ) نجم الخلاف حول خلافته بين المهاجرين و الأنصار .
لكن الذي نعلمه أنّ أبا سفيان لم يكن من الأنصار و لا من المهاجرين عندما قالا : « منا أمير و منكم أمير » حتى يحسب لنفسه حساباً في التحيز إلى طرف ، و رأى انضمامه إلى اضعف الأحزاب ـ أي حزب علي ( عليه السلام ) ـ أقرب الى مقصده من إيجاد موازنة في القوى و خلق عراقيل تكاد تمنع من حسم الخلاف ، فجاء علياً قائلاً له :
« لو شئت ملأتها لك خيلاً و رجالاً » و علي ( عليه السلام ) يومئذ يطرق الأبواب على المهاجرين و الأنصار يتمنى ناصراً لقضيته ، فلو كان ممّن يضيّع رشده بالمواعيد الخلابة لاغتنم من أبي سفيان هذا العرض ، و لكن الإمام عرف سوء قصده ـ و قصده الصيد في الماء العكر ـ فأجابه بالرد و الاستنكار قائلاً له : « مه يا أبا سفيان أجاهلية و إسلاماً » .
أي إنّك تتربص دوائر السوء بدين محمّد ( صلى الله عليه و آله ) في عهديك : عند الجاهليه و عهد الإسلام ، و تفرّس سوء مرامه من كلامه و أنّه انتهز فرصة الخلاف من حاشية النبي ( صلى الله عليه و آله ) و قصد احتلال مدينة الرسول عاصمة الإسلام بحجّة نصرة الضعيف أو تسوية الخلاف ، و ما جيوشه سوى مردة العرب من أهل النفاق فاذا نزل هؤلاء في عاصمة التوحيد سادت منافقة العرب ، و عادت مبادىء الجاهلية ـ و الناس حديثو عهد بالإسلام ـ فيكون الرجعيون أولى بالقوة و النصرة و الموحدون أولى بالضعف و الذلة ﴿ ... لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ... ﴾ 6 . قرأ هذه الشروح و أكثر منها علي ( عليه السلام ) من كلمة من أبي سفيان فرده رداً قارصاً ، لأنّ علياً رجل الحق و بطل الإيمان لا يضحّي الدين أو المصلحة العامة في سبيل نفع ذاتي أو شهوة و انتقام .
و لما عرف أبو سفيان أنّ علياً ( عليه السلام ) لا ينخدع و أنّه عند تداخل الأغيار ليصافح إخوانه المسلمين و يتحد معهم لحفظ بيضة الدين ـ مهما كان ضدهم و كانوا أضداده ـ ندم أبو سفيان على لفظته ، و هرع إلى الحزب الغالب ، و انضم إليهم ليحفظ مركزه الاجتماعي قبل أن يخسر الطرفين و تأخرت منوياته إلى حين ، حينما يخضر عود أمية بإمرة معاوية على الشام و عود سلطانهم .
و بعدما نبغ فيهم معاوية أخذ على عاتقه القيام بنوايا أسلافه و معه يومئذ أبوه ينصب علياً ( عليه السلام ) ـ دون المسلمين ـ هدفاً لسهامه الفتاكة ، إذ عرفه الينبوع الوحيد لسيال وحي المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) ، و أنّه البطل المناوىء لهم بكل قواه ، و العميد القائم ببيت بني هاشم ، و المركز القوي لابادة الحركة السفيانية ، و أنّ علياً هو و أبوه نصيرا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) حين لا ناصر له حتى أنه فداه بنفسه ليلة مبيته على فراشه ، و ضيع على قريش هجرته ، و نقض ما أبرموه عليه ، و علي القاتل صناديد قريش و أركان حزبهم في بدر و غيرها ، و لو لاه لقضوا على حياة رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) في بدر و أُحد و الخندق ، و علي الفاتح قلوب أهل مكة في وجه محمّد المصطفى إذ تلا عليهم سورة البراءة في الموقف العام العصيب بكل ثبات و جسارة و إقدام ـ الأمر الذي لم يكن يقوم به أحد من المسلمين إلى غير ذلك من مواقفه المهمة التي ضيع فيها على أمية مكايدها و كانت صدور أمية تغلي كالمرجل على رجل الإيمان .
دوافع يزيد الانتقامية
لقد تستّر ابن هند و الحزب الأموي في اخفاء غرضه تحت مخابيء السياسة المطلية بدهائهم ، لكنما أخلاقه ـ أمثال يزيد و الوليد ـ كشفوا القناع بأفعالهم و أقوالهم عن كل ما أُجني و أُخفي على الملأ ، فتجلى كالشمس أنّهم يبتغون التشفي و الانتقام من محمّد و أهل بيته بكل معاني التشفي ، إذ لم يسكت عن الحسين كما سكت عن ابن الزبير ، و خالف في ذلك وصاية أبيه و برنامجه ثم لم يسالم الحسين كما سالمه ولم يقنع بخروجه عن مناطق نفوذه و حدود سلطانه ـ كما اقترح عليه الحسين نفسه ـ ولم يجالدوا ابن النبي مجالدة عربي لعربي ، بل ضيّقوا عليه سبل الحياة ، و منعوه من ورد الفرات ، و حاصروه بنسائه و أطفاله في الفلاة ، و مثَّلوا به و بصحبه بعد القتل شرّ مثلة ، و جرّدوهم تاركين أشلاءهم عراة على العراء تسفي عليهم الرياح ، و قطعوا رؤوسهم و اداروا بها على فوق الرماح ، و سبوا صبية الحسين و نساءه يطاف بهن في الآفاق و في الأزقة و الأسواق ، موثقين بالحبال كالأغنام و حولهم طبول و أبواق ، يضع أميرهم الرأس الشريف بين يديه و ينكت برأس الخيزران ثناياه و شفتيه و يقول شامتاً :
يا حبذا لونك يا حسين *** كحمرة الوردة في الخدين . . الخ
و يسبّون الحسين و أباه و أخاه سراً و جهراً ، و ينتحلون الأحاديث القادحة في عليّ و صحابته ، و يهتكون حُرَم الله و رسوله و حُرُمات الدين ، و يفعل يزيدهم طغياناً في مدينة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ما فعله فرعون ، و يزيد يقتل أبناءهم و يستحيي نساءهم فراثت خيلهم في روضه النبي ( صلى الله عليه و آله ) و استباح عسكره المدينة ثلاثة أيام و افتضت بها اثنى عشر ألف عذراء ، ولم تسلم حُرّة في واقعة الحرّة ، إلاّ من لذن ببيت السجاد علي بن الحسين ( عليه السلام ) و هنّ ستمائة من الهاشميات و غيرهن ، فقد استثنى يزيد بيته و شخصه من الاضطهاد و الاستعباد إذ أمر قائده أن يجدد مبايعة اليثاربة له على أنّه عبيده إن شاء باعهم و إن شاء أعتقهم .
و روى الجاحظ : « إنّهم وسموا العباد ، و وشموا الأجساد » ـ كما يفعل بالأنعام و الكلاب ـ علامة انّهم خول لبني أمية ، و رأوا أنس بن مالك ـ خادم رسول الله و صاحبه ـ و في عنقه قلادة مختوم عليها بالرصاص علامة عبوديته لهم ، و أحرقوا ستار الكعبة ، و رموها بالمنجنيق ، و قتلوا الطائفين و العاكفين ، و سفكوا الدم الحرام ، في البلد الحرام ، و في الشهر الحرام ، و حولوا قبلة واسط الى الشام .
معاوية و تعقيباته
ناصب معاوية و حزبه علياً و صحبه و كان ما كان من أيام البصرة و صفين و النهروان و علي ( عليه السلام ) في كلّها غير مخذول ، و لا يزداد معاوية إلا حقداً عليه و موجدة ، و تعقب الضغائن إثر الضغائن ، و كان معاوية رجل الغدر و حليماً إلاّ على علي ( عليه السلام ) و خاصته .
فلما توفي علي ( عليه السلام ) سنة 40 بسيف ابن ملجم الخارجي ساجداً في محرابه ، زال من بين عيني معاوية ذلك الشبح الرهيب الذي كان يخيفه في منامه و في خلواته ، و قويت عزائمه و توجهت شطره أكثر النفوس التي كانت رهن سجايا علي ( عليه السلام ) و علومه و منقادة لصوته و سوطه و صيت شجاعته و سماحته ، لا سيما و أنّ الآثار النبوية المشهورة فيه كانت لا تقاس كثرة و شهرة بما ورد في شأن غيره ، و الخدمات التي قام علي بها كانت قاطعة الألسن فضلاً عن طول عهد الإمارة لمعاوية و انتشار حزبه الفعال و توزيعه الأموال .
هذه العوامل و غيرها ضيّقت دائرة النفوذ على الحسن بن علي ( عليه السلام ) و خليفته و وسعت المجال لمعاوية و حزبه ، فانتقم من علي بعد وفاته و سبَّ علياً على المنابر ، و المنائر ، و الألسن ، و الكتب .
و يا بؤسها من حيلة و وسيلة لاستئصال مجد بني هاشم بثلب كبيرهم و قد قال ابن عباس : « إنّهم يريدون بسب علي سبّ رسول الله » ثم لم يقنع بذلك فأخذ يتتبع خاصة علي ( عليه السلام ) بالسم و العسل و يقول : « إن لله جنوداً من عسل » يعني السم المرسول إلى أعدائه ، ولم يسع حلمه أصحاب علي و بنيه قط فدس سماً ذريعاً إلى زوجة الحسن السبط فقتلته اغتراراً بموعد زواجها من يزيد .
تأثرات الحسين الروحية
هنا حري بنا أن ندرس حالة الحسين ( عليه السلام ) ذلك المتفاني في حب شقيقه الحسن ماذا يجري على قلبه و هو يرى أحشاء أخيه مقذوفة في الطست من سم معاوية ، ثم تمنع بدسيسة مروانيه جنازة أخيه من زيارة جدّه ـ و هما ريحانتاه ـ و يسمع سبّ أبيه و أخيه في المعابر و على المنابر و تنعى إليه صحابة أبيه من فتك معاوية بهم ، و سحق العهود الشريفة ،و محق شعائر الإسلام ، و تبديل سنن جدّه بالبدع ، و تحويل الإسلام من روح دينيه عالمية إلى روح قومية ملكية ، و تمهيد أُسس للرجعة إلى الجاهلية .
هذا كلّه عدا ما سبق من أمر معاوية وعلي ( عليه السلام ) في حروب و فتن أوجدها معاوية لأغراض ذاتية ، و فتّ في عضد الدين ، و شتت بها شمل المسلمين . أضف عليها ما جرى على جدّه المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) من الحزب السفياني أثناء البعثة و بعد الهجرة . أفلا يكون بعد ذلك كله قلب الحسين دفتراً ملؤه المؤلمات ؟! و لابد و أن تكون هذه الموجدات في الحسين ( عليه السلام ) و في صدره بركاناً قوياً مشرفاً على الانفجار ، و حسين الشهامة لم يكن بالذي يقيم على الضيم لو لا أنّ الوصيّة تتلو الوصيّة من أخيه و جدّه و أبيه و خاصة مواليه بالصبر ، « و الصبر أمرّ من الصبر » .
كيف يبايع الحسين
غريب والله أنّ يزيد المشهور بالسفاسف و الفجور يريد التقمص بخلافة النبي محمّد ( صلى الله عليه و آله ) المبعوث لتكميل مكارم الأخلاق ، و ذلك في حياة الحسين ( عليه السلام ) ابن ذاك النبي و حبيبه . فيزيد يعلم نفسية الحسين و يعلم أنّ صدر الحسين ( عليه السلام ) أصبح بركاناً قريب الانفجار ، و مع ذلك لا يقنع بسكونه و سكوته عما هو فيه ، بل يريد منه فوق ذلك كلّه أن يعترف له بالخلافة عن الرسول ، و هل ذاك إلاّ رابع المستحيلات ؟ فإنّ اعتراف الحسين ( عليه السلام ) بخلافة يزيد عبارة أخرى عن أنّ الحسين ليس بالحسين « أي إنّ معنى قبوله البيعة ليزيد بيع دين جدّه ، و كل مجده ، و كل شعور شريف للعرب ، و كل حق للمسلمين ، و كل آمال لقومه يبيعها جمعاء برضى يزيد عليه » و هذا محال على الحسين ( عليه السلام ) و على كل أبطال الفضائل ، فإنّ قبوله بيعة يزيد عبارة أخرى عن اعترافه بتساوي الفضيلة و الرذيلة ، و استواء العدل و الظلم ، و اتحاد الحق و الباطل ، و تماثل النور و الظلام ، و أنّ العلم و الجهل مستويان ، و أنّ الخفيف و الثقيل سيان في الميزان ، فهل يسوغ بعد هذا كله سكوته و سكونه ؟!
و قد يزعم البسطاء أنّ الحسين ( عليه السلام ) لو استعمل التقية و صافح يزيد لاتّقى ببيعته شرّ أمية ، و نجا من مكرها ، و صان حرمته ، و حفظ مهجته ، لكن ذلك و هم بعيد . . .
فإن يزيد المتجاهر بالفسوق لا يقاس بمعاوية الداهية المتحفظ ، فبيعة مثل الحسين ( عليه السلام ) لمثل يزيد غير جائزة بظاهر الشريعة ، و لذلك تخلّف عن بيعته سعد بن بن أبي وقاص ، و عبد الرحمن بن أبي بكر ، و عبد الله بن عمرو ، و عبد الله بن الزبير أيضاً فأنكروا على معاوية استخلاف يزيد و امتنعوا عن بيعته حتى فارقوا الحياة ، و كان سيدنا الحسين ( عليه السلام ) أولى بهذا الامتناع و الإنكار .
و أمّا مع غضّ النظر عن التكليف الشرعي و مطالبة وجه غير التمسك بظواهر الكتاب و السنة فنقول : إنّ التحري في الوثائق التاريخية و الكتب المعتبرة يؤدي إلى الاعتقاد بأنّ سيدنا الحسين ( عليه السلام ) كان يعلم بانطواء خصومه على نية التشفّي من قتله ، و قد صرح في مواطن عدّة بأنّ بني أمية غير تاركيه حتى لو كان في جحر ضب لاستخرجوه و قتلوه ، و قال ( عليه السلام ) للعكرمي في بطن عقبة : « ليس يخفى عليّ الرأي و لكنهم لا يدعونني حتى يخرجوا هذه العلقة من جوفي » و أكد ابن زياد نية التشفّي من قتل الحسين ( عليه السلام ) في كتابه لابن سعد قائلاً : « حل بين الحسين و أصحابه و بين الماء فلا يذوقوا منه قطرة ، كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان » . و أعلم يزيد نفسه بما يضمره من الانتقام من آل محمّد كما قال :
لست من خندف إن لم انتقم *** من بني أحمد ما كان فعل
الى غير ذلك من الشواهد التي نستنتج منها ما قصده الأمويون من الانتقام من آل الرسول ( صلى الله عليه و آله ) علم ابن النبي ( صلى الله عليه و آله ) من كل هذا تصميم آل حرب على انتقامهم من آل علي مهما تظاهر هؤلاء بمسالمتهم و مطاوعتهم و مهما تظاهر آل حرب لهم بالأمان و الإيمان ، و قد أكد هذا العلم غدر ابن زياد بابن عمّه مسلم و اعطاؤه الأمان حتى إذا خلع سلاحه قتله شرّ قتلة ، و أجلى من ذلك غدر معاوية بأخيه الحسن ( عليه السلام ) و دسه السم إلى من قتله بعد أن صالحه و صافحه و تنازل له عن خلافته المعقودة له ، فهل ترى ابن النبي ( صلى الله عليه و آله ) بعد ذلك كلّه يعيد الامتحان و يجرب المجرب ؟ كلا ! إذن فالحسن وجد نفسه مقتولاً إذا لم يبايع و مقتولاً إذا بايع ، لكنه إن بايع اشترى مع قتله قتل مجده و قتل آثار جدّه أما إذا لم يبايع فإنّما هي قتلة واحدة تحيا بها آماله ، و شعائر الدين ، و الشرف المؤبد .
البيعة ليزيد
صفا لمعاوية الجو و ملك نحو أربعين سنة ملكاً قلّما يسمح الزمان بمثله ، و هوفي خلال ذلك لا يفتر عن عمله ليله و نهاره فيستكثر أعوانه ، و يعزّز إخوانه و يستحوذ على من يشاء بما أُوتي من مال و دهاء ، و استمال إلى أهوائه أمثال زياد و ابن العاص و المغيرة من الدهاة فمد أطناب حزبه و رواق مأربه ، و انقادت إليه حتى آل هاشم . و لكن الرجل استحب دوام هذا السؤدد لبيته و من يخلفه في إنفاذ نواياه ، إذ عرف أنّ سلطانه وقتي و قسري ـ و ما كان بالقسر لا يدوم ـ فأراد إثباته في بيته مادام حياً ; لأنّه يخشى من موته انقلاب الأمور على بنيه ، لا سيما و ابنه يزيد موضع نقمة الجمهور و في الناس مَن هو أقدم منه و أولى ، فأخذ البيعة ليزيد حال حياته ـ بعد أن ذلل الصعاب و مهّد السبل لغاياته ـ غير أنّ الأُباة أبوا عليه البيعة ليزيد ، و اتخذت عملية معاوية هذه كمناورة يمتحن بها مخالفيه ، ثم أوصى ولده يزيد بأن لا يمس هؤلاء بسوء إذا أبوا عليه البيعة بعد موته إلاّ ابن الزبير ، و السر فيما ارتآه داهية قريش هو أنّ البعض من هؤلاء ضعيف النفس مسبوق بغضاضة .
و أما الحسين السبط فنفس أبيه بين جنبيه و يخشى على البيت الأموي من التعرّض له ، و بما انّه رجل الفضيلة يؤمل فيه أن يستمر على سكوته و سكونه إذا علم برغائبه و مداراته ، و يخشى من قيامه أن يقوم الحجاز و العراقان معه حين لا معاوية لديه ولا ابن العاص .
أمّا ابن الزبير فذو نفسية حربية مع أعدائه و ذو دهاء مع رقبائه و لكنه كأبيه شحيح لا مطمع فيه ، فالعدو لا يأمن منه و الصديق لا يأمل فيه ، فاستهان القضاء عليه من دون توقع محذور في معاداته . و لكن يزيد لم يعمل بهذه الوصيّة إذ أنّه عاش عيشة ترف قضاها في الصيد و السكر و اللهو ، و مثل هذه التربية تسوق صاحبها لعبادة الهوى و الاغترار بسلطان الشهوات ، فلا يحترم قديماً ، و لا يحتشم عظيماً ، و لا يحتفل بالدين ، و لا برغائب الجمهور .
و عليه فما مات معاوية إلاّ و الأوامر تترى من يزيد على ابن عمه الوليد ـ والي المدينة ـ بأخذ البيعة له من الناس عامة و من الحسين و ابن الزبير خاصة فتلقى الوليد بن يزيد بن أبي سفيان أوامره بكل رهبة و احتياط ، و كان يعرف سوء سمعة يزيد كما يعرف حسن شهرة هؤلاء عند المسلمين عامة و عند أهل الحجاز خاصة ، فأدت سياسته إلى إعلام هؤلاء بالأمر بصورة و دية مع المداراة لرغائبهم و حركاتهم قبلما يأخذ البيعة العامة في مسجد النبي ليزيد كخليفة ، فأرسل إلى الحسين و الى ابن الزبير ليحضرا لديه فجاءه الحسين ( عليه السلام ) و معه ثلة من أقربائه ، ولم يدخلوا معه فاستقبله الوليد بالترحاب و مروان 7 جالس متغيّر و تكاد تقرأ ما في قلبه من سحنات وجهه . و ابتدأ الوليد ينعى معاوية فاسترجع الحسين ( عليه السلام ) ثم قال الوليد : « إنّ يزيد استحب اقتراح البيعة فماذا ترى ؟ » فأجابه الحسين : « إنّ البيعة تحسن من مثلي لمثل يزيد أن تكون علانية و بملأ من الناس ، فالأولى أن تؤجلها إلى موعد اجتماع الناس في المسجد » فأجابه الوليد بكل لين و تساهل ، غير أنّ مروان عكر صفو السلم ، و قال : « يا أمير لا تدع حسيناً يخرج من عندك بلا بيعة فيكون أولى منك بالقوة و تكون أولى منه بالضعف ، فاحبسه حتى يبايع أو تضرب عنقه » فوثب عندئذ حسين المجد قائلاً : « يا ابن الزرقاء ! أنت تقتلني أم هو ؟ كذبت والله و لئمت » ثم انصرف هو و بنو هاشم .
كان الوليد و مروان كلاهما يبغيان إخضاع الحسين ( عليه السلام ) ليزيد و لكن ذاك بالسياسة و هذا بالتهديد ، و كأنّ الوليد أراد أن يستميل قلب الحسين و يسترق من لسانه كلمة القبول ـ و لو سرا ـ لعلمه أنّ الحسين رجل الصدق و الثبات ، فلا يعدل عن كلمته و ليس بذي لسانين ، إسرار و جهار ، و لا ذا وجهين محضر و مغيب .
أمّا مروان فكأنّه علم أنّ المسلمين إذا اجتمعوا في مسجد النبي بين قبره و منبره ، و حضر لديهم ريحانة النبي و بنو هاشم وقوف و بنو الأنصار جلوس ، فإن المؤثرات المعنوية و الحسية لا تسفر إلاّ عن البيعة للحسين و خسران صفقة يزيد .
و بالجملة فإنّ مروان نقض على الوليد أمراً كان قد أبرمه ، غير أنّ الخبر لم ينشر خارج المدينة لمراقبة الوالي و فقد وسائل المخابرات . أما الحسين ( عليه السلام ) فقد عرف أنّ مروان سوف يخابر يزيد على عزل الوالي أو يحمل الوالي على الوقيعة بالحسين و آله ، و أنّ يزيد و حزبه ينقادون لإرادات مروان بشخصيته البارزة في الحزب السفياني ، و قديم عدائه للنبي و آله . و قد كان هو و أبوه طريدي رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و معلونين على لسانه 8 فلا بد وأن ينتقم من ريحانة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بالمثل أو يزيد ، فلم يجد الحسين ( عليه السلام ) بدّاً سوى الهجرة الى حرم الله .
و عميد الحزب الهاشمي علي ( عليه السلام ) رجل الحق و في أنصاره المهاجرون و أبطال مصر و العراقيين و شعارهم الحق ، و الفضيلة ، و حفظ الحرمات ، كما أقام الجانب المعارض أمره على دعائم الغدر ، و المكر ، و طلب الملك ، و الشهوات هم معاوية و زياد بن أبيه و عمرو بن العاص و مروان و المغيرة بن شعبة و أشباههم . فاستخدموا في سبيل الانتصار كل وسيلة و حيلة زهاء ربع قرن ملؤه الفجائع و الفظايع حتى احتجب الحق و توارى أهله ، و فاز ابن أبي سفيان و أهلوه في كل منكر فعلوه حتى في إقامة الجمعة في غير يومها و حتى في استلحاق زياد و استخلاف يزيد 1 و حتى . . و حتى . . استنوقوا الجمل و ظنوا موت الحق ، و لكن الحق حي لا يموت . هناك دعى طغيان الغرور يزيد الجور و الفجور أن يطالب أباه باقتران أُرينب « أم خالد » ربة الخدر و الجمال و هي متبعلة بزوجها عبد الله .
قالوا : إنّ يزيد بن معاوية كان يتحرّى أخبار الفتيات الحسان فبلغه من وصف أُرينب بنت إسحاق القرشي و كمال جمالها ما استثار هواه و ظلّ يترقّب فرصة إعلام أبيه برغبته إليها فيزوجها منه ، فسمع يوماً بزواجها من ابن عمها عبد الله بن سلام فشق عليه ذلك و أبلغ أباه معاوية بما هو فيه و أنّه مشرف على الهلكة من خيبة الأمل ، فأمره أبوه أن يكتم رغبته حتى يتمكن من استدراك ما فاته ! ثم استدعى عبد الله بن سلام إلى الشام و أكرم ضيافته و أرسل إليه أبا هريرة ليرغبه إلى مصاهرة معاوية و تزويج أخت يزيد إياه ، فرحب عبد الله برغبة معاوية و لبّى هذا الطلب بكل شكر و ثناء ، فرجع أبو هريرة بذلك إلى معاوية ، فقال معاوية : سر يا أبا هريرة إلى ابنتي و أعلمها برغبتي إلى زواجها ، فإنّ الإقدام على ما فيه رضاؤها أحوط و أقرب إلى رضا الله تعالى .
و كان معاوية قد بيّت الكلام مع ابنته و علّمها الذي تقوله في الجواب . و لما أتاها أبو هريرة بمقالة أبيها معاوية و امتدح عندها عبد الله بن سلام أجابت بأنّها لا تأبى ما اختاروا لها لو لا أنها تخشى وجود زوجته « اُرينب » فيدركها ما يدرك المرأة من ضرّتها ممّا يغضب الله و يغضب أباها ، فخرج أبو هريرة إلى عبد الله بن سلام بالخبر و استقر رأيهم على طلاق اُرينب فطلقها عبد الله بن سلام طمعاً في مصاهرة معاوية و جلالة ملكه ، و بعد ما توثق معاوية من طلاق اُرينب جهز اليها أبا هريره ليخبرها بأمر زوجها عبد الله و أن يزوجها من ابنه يزيد بما شاءت من صداق .
و ظل ابن سلام يطالب معاوية بانجاز ما وعده و معاوية يماطله ، حتى سمع بأنّ مخطوبته تكره قبوله زاعمة أن الذي يطلق ابنة عمه التي فاقت أقرانها مالاً و جمالاً و كمالاً و شرفاً لا يصعب عليه أن يطلق الثانية يوماً ما .
و شاعت مكيدة معاوية في الملأ و أنه يبغي وراء حرمان عبد الله بن سلام من زوجته أُرينب أن يزوجها من يزيد ، و خرج ابن سلام من الشام غضبان أسِفاً .
أما أبو هريرة فمر بالحسين بن علي ( عليه السلام ) في طريقه فسلّم عليه فاحتفل به الحسين ( عليه السلام ) و سأله عما جاء به من الشام فقص عليه خبره فناشده الله أن يذكره عند اُرينب عسى أن ترضى بالحسين زوجاً لها ، فقبل ذلك أبو هريرة و جاء اُرينب و اخبرها بما فعل زوجها عبد الله بن سلام . . بائنة فبكت اُرينب و لما هدأ روعها و استرجعت قال لها أبو هريرة : « إنّك لا تعدمين طلاباً خيراً من عبد الله بن سلام و قد رغب إلى زواجك يزيد بن معاوية و الحسين بن علي ( عليه السلام ) و هما معروفان لديك بأحسن ما تبتغينه في الرجال ، و يبذلان لك ما تشائين من الصداق » ثم لما عاودها على اختيار رأيها في الرجلين قالت : « إنّك خير من استشيره في الأمر فاختر لي » فقال أبو هريرة : « لا اختار فم أحد على فم قبّله رسول الله تضعين شفتيك في موضع شفتي رسول الله » . قالت : « فلا اختار على الحسين بن علي أحداً و هو ريحانة النبي و سيد شباب أهل الجنة » فعقد عليها الحسين . و لما بلغ ذلك معاوية سخط سخطاً شديداً و قال :
أنعمي أُم خالد *** رب ساع لقاعد 2
حنق يزيد على الحسين بن علي حنقاً لا مزيد عليه ، و استوهن الأمر عبد الله بن سلام و خف عليه حزنه و جاء إلى الحسين ( عليه السلام ) و طلب منه أن يسأل اُرينب رد أمانته التي أودعها لديها عند ما سافر إلى الشام و هي خلاصة ما يملكه من دنياه . فجاء الحسين إلى اُرينب و قال لها : « إنّ زوجها عبد الله بن سلام يطالبها بوديعة أودعها لديها » فقالت : « صدق و ها هي وديعته » و أخرجت بدراً مختومة ، فدعا الحسين عبد الله و قال له : « ادخل عليها و استلم وديعتك من يدها كما استلمتها من يدك » . فدخل عبد الله و بكى و بكت معه و استلم الودايع منها سالمة ثم قال لهما الحسين : « ارجعا إلى ما كنتما عليه فإنّي اشهد الله أنها طالقة و أنّي لم ألمسها و ما أدخلتها في بيتي و تحت نكاحي إلاّ محافظة لها من يزيد و من كيد أبيه ، فخذ بيدها و اذهبا حيث شئتما » .
فبكيا من الوجد طويلاً و أرادت اُرينب أن تعيد إلى سيدها الحسين صداقها فوهبها الحسين قائلاً : « إن الذي أرجوه من الله تعالى خير لي من ذلك » ولم يسترجع منها شيئاً كرامة منه و إحساناً .
نعم دفعت سجية الفضيلة حسينها إلى صيانة عرض عبد الله من عدو الله بعد أن عرف من سجاياه هتك الحرمات ، و عرف من سجايا أبيه تبديل آثار جدّه و تبديد مجده ، و تذكر بعد ذلك سم أخيه و سب أبيه ، و مافعلت هند بعمه ، و أذى صخر لجدّه ، و أنّ الذي أضمروه له و لأسرته ـ أو بالأحرى لأُمته ـ في مستقبل الزمن أسوء من ماضيه . كل هذه الذكريات دفعت حسين الشرف إبراز هذه المآثر التاريخية المتلألئة في سماء الفضائل .
لقد أثّرت عملية الحسين ( عليه السلام ) تأثيرها الحسن في نفوس بني الضاد رقاة الشرف و دعاة مكارم الأخلاق ، كما أنها أثارت من يزيد أحقاداً خمد نارها أو كادت فوق ما ذكرته اندحار أبيه أمام جدال الحسن ، و قتال أبيه ، و مصرع عتبة و شيبة و حنظلة و سائر أشياخه ، و الذل الذي لحق جدّه يوم عرض نصرته لعلي ( عليه السلام ) و يوم عرض إسلامه للنبي ( صلى الله عليه و آله ) و عند استجارته بهما في المدينة . . فصمّم من فوره على الانتقام من حسين الفضيلة أشدّ الانتقام حينما أصبحت الأمور له متسقة و الجماهير به مستوثقة و فيهم عبيد الله بن زياد إن لم يكن زياد .
مبادئ قضية الحسين
كل الذين دوّنوا قضية الحسين ( عليه السلام ) أخذوا سلسلتها من أوساطها ، أي من حين البيعة ليزيد . في حين أنّ القضية ـ كما سبق ـ تبتدئ من عهد أبي سفيان و محمّد ( صلى الله عليه و آله ) ـ إن لم نقل من قبل و من عهد هاشم 3 و عبد شمس ـ فإن أبا سفيان جدّ يزيد إذ رأى محمّداً جدّ الحسين قد نهض في مكة سنة 610م يدعو العرب إلى توحيد المعبود و الإتحاد في طاعته ، حسب أنّه سيهدم مجد عبد شمس و رئاستهم و يبني لبني هاشم 4 بيت مجد مرصوص الأساس و يعم ظله الوارف عامة الناس . فاندفع بكل قواه إلى معارضته ففعل ما فعل في مقاومة النبي ( صلى الله عليه و آله ) و إهانته ، و تفريق أعوانه ، و تحشيد الجموع لمحاربته حتى كان في أيام بدر و أُحد و الأحزاب و هما مثالان للحق و الباطل ، و أمرُ محمّد ( صلى الله عليه و آله ) يقوى انتشاره و مناره حتى رمى حزب أبي سفيان آخر نبلة من كنانته ولم يفلح : ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ 5 .
و ذلك أنّ الله سبحانه فتح لنبيه مكة فتحاً مبيناً ، و نصره على قريش نصراً عزيزاً . انتهت الحركة السفيانية ، و لكن في الظاهر .
أمّا الحزب الخاسر المنكسر فقد كان يعمل ليلاً و نهاراً في تلافي خسرانه و ارجاع سلطانه ، و لكن تحت الستار و بأخفى من دبيب النمل على الصفا ، يرسم الخطة للقيام بحركة وسيعة الدائرة حتى إذا قضى النبي ( صلى الله عليه و آله ) نحبه تنفس و انتهز الفرصة لاستعادة مجده .
أجل! لقي محمّد ( صلى الله عليه و آله ) ربه و أبو سفيان حي يسمع الناعية عليه ، و لكن لا يسعه إظهار شيء و كان العباس عم النبي ( صلى الله عليه و آله ) يعرف من أمره شيئاً إذ كان صديقه الحميم في الجاهليه و الإسلام ، فأشار على عليّ ( عليه السلام ) ابن أخيه أبي طالب ـ و هو يغسل جنازة النبي ( صلى الله عليه و آله ) ـ قائلاً له : « يا علي مد يدك لأبايعك حتى يقول الناس : عم رسول الله بايع ابن عمه ، فلا يختلف عليك اثنان » فلم يسمع من ابن أخيه جواباً سوى كلمة : « يا عمّ أولها غيري! » و قبل أن يدفن النبي ( صلى الله عليه و آله ) نجم الخلاف حول خلافته بين المهاجرين و الأنصار .
لكن الذي نعلمه أنّ أبا سفيان لم يكن من الأنصار و لا من المهاجرين عندما قالا : « منا أمير و منكم أمير » حتى يحسب لنفسه حساباً في التحيز إلى طرف ، و رأى انضمامه إلى اضعف الأحزاب ـ أي حزب علي ( عليه السلام ) ـ أقرب الى مقصده من إيجاد موازنة في القوى و خلق عراقيل تكاد تمنع من حسم الخلاف ، فجاء علياً قائلاً له :
« لو شئت ملأتها لك خيلاً و رجالاً » و علي ( عليه السلام ) يومئذ يطرق الأبواب على المهاجرين و الأنصار يتمنى ناصراً لقضيته ، فلو كان ممّن يضيّع رشده بالمواعيد الخلابة لاغتنم من أبي سفيان هذا العرض ، و لكن الإمام عرف سوء قصده ـ و قصده الصيد في الماء العكر ـ فأجابه بالرد و الاستنكار قائلاً له : « مه يا أبا سفيان أجاهلية و إسلاماً » .
أي إنّك تتربص دوائر السوء بدين محمّد ( صلى الله عليه و آله ) في عهديك : عند الجاهليه و عهد الإسلام ، و تفرّس سوء مرامه من كلامه و أنّه انتهز فرصة الخلاف من حاشية النبي ( صلى الله عليه و آله ) و قصد احتلال مدينة الرسول عاصمة الإسلام بحجّة نصرة الضعيف أو تسوية الخلاف ، و ما جيوشه سوى مردة العرب من أهل النفاق فاذا نزل هؤلاء في عاصمة التوحيد سادت منافقة العرب ، و عادت مبادىء الجاهلية ـ و الناس حديثو عهد بالإسلام ـ فيكون الرجعيون أولى بالقوة و النصرة و الموحدون أولى بالضعف و الذلة ﴿ ... لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ... ﴾ 6 . قرأ هذه الشروح و أكثر منها علي ( عليه السلام ) من كلمة من أبي سفيان فرده رداً قارصاً ، لأنّ علياً رجل الحق و بطل الإيمان لا يضحّي الدين أو المصلحة العامة في سبيل نفع ذاتي أو شهوة و انتقام .
و لما عرف أبو سفيان أنّ علياً ( عليه السلام ) لا ينخدع و أنّه عند تداخل الأغيار ليصافح إخوانه المسلمين و يتحد معهم لحفظ بيضة الدين ـ مهما كان ضدهم و كانوا أضداده ـ ندم أبو سفيان على لفظته ، و هرع إلى الحزب الغالب ، و انضم إليهم ليحفظ مركزه الاجتماعي قبل أن يخسر الطرفين و تأخرت منوياته إلى حين ، حينما يخضر عود أمية بإمرة معاوية على الشام و عود سلطانهم .
و بعدما نبغ فيهم معاوية أخذ على عاتقه القيام بنوايا أسلافه و معه يومئذ أبوه ينصب علياً ( عليه السلام ) ـ دون المسلمين ـ هدفاً لسهامه الفتاكة ، إذ عرفه الينبوع الوحيد لسيال وحي المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) ، و أنّه البطل المناوىء لهم بكل قواه ، و العميد القائم ببيت بني هاشم ، و المركز القوي لابادة الحركة السفيانية ، و أنّ علياً هو و أبوه نصيرا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) حين لا ناصر له حتى أنه فداه بنفسه ليلة مبيته على فراشه ، و ضيع على قريش هجرته ، و نقض ما أبرموه عليه ، و علي القاتل صناديد قريش و أركان حزبهم في بدر و غيرها ، و لو لاه لقضوا على حياة رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) في بدر و أُحد و الخندق ، و علي الفاتح قلوب أهل مكة في وجه محمّد المصطفى إذ تلا عليهم سورة البراءة في الموقف العام العصيب بكل ثبات و جسارة و إقدام ـ الأمر الذي لم يكن يقوم به أحد من المسلمين إلى غير ذلك من مواقفه المهمة التي ضيع فيها على أمية مكايدها و كانت صدور أمية تغلي كالمرجل على رجل الإيمان .
دوافع يزيد الانتقامية
لقد تستّر ابن هند و الحزب الأموي في اخفاء غرضه تحت مخابيء السياسة المطلية بدهائهم ، لكنما أخلاقه ـ أمثال يزيد و الوليد ـ كشفوا القناع بأفعالهم و أقوالهم عن كل ما أُجني و أُخفي على الملأ ، فتجلى كالشمس أنّهم يبتغون التشفي و الانتقام من محمّد و أهل بيته بكل معاني التشفي ، إذ لم يسكت عن الحسين كما سكت عن ابن الزبير ، و خالف في ذلك وصاية أبيه و برنامجه ثم لم يسالم الحسين كما سالمه ولم يقنع بخروجه عن مناطق نفوذه و حدود سلطانه ـ كما اقترح عليه الحسين نفسه ـ ولم يجالدوا ابن النبي مجالدة عربي لعربي ، بل ضيّقوا عليه سبل الحياة ، و منعوه من ورد الفرات ، و حاصروه بنسائه و أطفاله في الفلاة ، و مثَّلوا به و بصحبه بعد القتل شرّ مثلة ، و جرّدوهم تاركين أشلاءهم عراة على العراء تسفي عليهم الرياح ، و قطعوا رؤوسهم و اداروا بها على فوق الرماح ، و سبوا صبية الحسين و نساءه يطاف بهن في الآفاق و في الأزقة و الأسواق ، موثقين بالحبال كالأغنام و حولهم طبول و أبواق ، يضع أميرهم الرأس الشريف بين يديه و ينكت برأس الخيزران ثناياه و شفتيه و يقول شامتاً :
يا حبذا لونك يا حسين *** كحمرة الوردة في الخدين . . الخ
و يسبّون الحسين و أباه و أخاه سراً و جهراً ، و ينتحلون الأحاديث القادحة في عليّ و صحابته ، و يهتكون حُرَم الله و رسوله و حُرُمات الدين ، و يفعل يزيدهم طغياناً في مدينة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ما فعله فرعون ، و يزيد يقتل أبناءهم و يستحيي نساءهم فراثت خيلهم في روضه النبي ( صلى الله عليه و آله ) و استباح عسكره المدينة ثلاثة أيام و افتضت بها اثنى عشر ألف عذراء ، ولم تسلم حُرّة في واقعة الحرّة ، إلاّ من لذن ببيت السجاد علي بن الحسين ( عليه السلام ) و هنّ ستمائة من الهاشميات و غيرهن ، فقد استثنى يزيد بيته و شخصه من الاضطهاد و الاستعباد إذ أمر قائده أن يجدد مبايعة اليثاربة له على أنّه عبيده إن شاء باعهم و إن شاء أعتقهم .
و روى الجاحظ : « إنّهم وسموا العباد ، و وشموا الأجساد » ـ كما يفعل بالأنعام و الكلاب ـ علامة انّهم خول لبني أمية ، و رأوا أنس بن مالك ـ خادم رسول الله و صاحبه ـ و في عنقه قلادة مختوم عليها بالرصاص علامة عبوديته لهم ، و أحرقوا ستار الكعبة ، و رموها بالمنجنيق ، و قتلوا الطائفين و العاكفين ، و سفكوا الدم الحرام ، في البلد الحرام ، و في الشهر الحرام ، و حولوا قبلة واسط الى الشام .
معاوية و تعقيباته
ناصب معاوية و حزبه علياً و صحبه و كان ما كان من أيام البصرة و صفين و النهروان و علي ( عليه السلام ) في كلّها غير مخذول ، و لا يزداد معاوية إلا حقداً عليه و موجدة ، و تعقب الضغائن إثر الضغائن ، و كان معاوية رجل الغدر و حليماً إلاّ على علي ( عليه السلام ) و خاصته .
فلما توفي علي ( عليه السلام ) سنة 40 بسيف ابن ملجم الخارجي ساجداً في محرابه ، زال من بين عيني معاوية ذلك الشبح الرهيب الذي كان يخيفه في منامه و في خلواته ، و قويت عزائمه و توجهت شطره أكثر النفوس التي كانت رهن سجايا علي ( عليه السلام ) و علومه و منقادة لصوته و سوطه و صيت شجاعته و سماحته ، لا سيما و أنّ الآثار النبوية المشهورة فيه كانت لا تقاس كثرة و شهرة بما ورد في شأن غيره ، و الخدمات التي قام علي بها كانت قاطعة الألسن فضلاً عن طول عهد الإمارة لمعاوية و انتشار حزبه الفعال و توزيعه الأموال .
هذه العوامل و غيرها ضيّقت دائرة النفوذ على الحسن بن علي ( عليه السلام ) و خليفته و وسعت المجال لمعاوية و حزبه ، فانتقم من علي بعد وفاته و سبَّ علياً على المنابر ، و المنائر ، و الألسن ، و الكتب .
و يا بؤسها من حيلة و وسيلة لاستئصال مجد بني هاشم بثلب كبيرهم و قد قال ابن عباس : « إنّهم يريدون بسب علي سبّ رسول الله » ثم لم يقنع بذلك فأخذ يتتبع خاصة علي ( عليه السلام ) بالسم و العسل و يقول : « إن لله جنوداً من عسل » يعني السم المرسول إلى أعدائه ، ولم يسع حلمه أصحاب علي و بنيه قط فدس سماً ذريعاً إلى زوجة الحسن السبط فقتلته اغتراراً بموعد زواجها من يزيد .
تأثرات الحسين الروحية
هنا حري بنا أن ندرس حالة الحسين ( عليه السلام ) ذلك المتفاني في حب شقيقه الحسن ماذا يجري على قلبه و هو يرى أحشاء أخيه مقذوفة في الطست من سم معاوية ، ثم تمنع بدسيسة مروانيه جنازة أخيه من زيارة جدّه ـ و هما ريحانتاه ـ و يسمع سبّ أبيه و أخيه في المعابر و على المنابر و تنعى إليه صحابة أبيه من فتك معاوية بهم ، و سحق العهود الشريفة ،و محق شعائر الإسلام ، و تبديل سنن جدّه بالبدع ، و تحويل الإسلام من روح دينيه عالمية إلى روح قومية ملكية ، و تمهيد أُسس للرجعة إلى الجاهلية .
هذا كلّه عدا ما سبق من أمر معاوية وعلي ( عليه السلام ) في حروب و فتن أوجدها معاوية لأغراض ذاتية ، و فتّ في عضد الدين ، و شتت بها شمل المسلمين . أضف عليها ما جرى على جدّه المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) من الحزب السفياني أثناء البعثة و بعد الهجرة . أفلا يكون بعد ذلك كله قلب الحسين دفتراً ملؤه المؤلمات ؟! و لابد و أن تكون هذه الموجدات في الحسين ( عليه السلام ) و في صدره بركاناً قوياً مشرفاً على الانفجار ، و حسين الشهامة لم يكن بالذي يقيم على الضيم لو لا أنّ الوصيّة تتلو الوصيّة من أخيه و جدّه و أبيه و خاصة مواليه بالصبر ، « و الصبر أمرّ من الصبر » .
كيف يبايع الحسين
غريب والله أنّ يزيد المشهور بالسفاسف و الفجور يريد التقمص بخلافة النبي محمّد ( صلى الله عليه و آله ) المبعوث لتكميل مكارم الأخلاق ، و ذلك في حياة الحسين ( عليه السلام ) ابن ذاك النبي و حبيبه . فيزيد يعلم نفسية الحسين و يعلم أنّ صدر الحسين ( عليه السلام ) أصبح بركاناً قريب الانفجار ، و مع ذلك لا يقنع بسكونه و سكوته عما هو فيه ، بل يريد منه فوق ذلك كلّه أن يعترف له بالخلافة عن الرسول ، و هل ذاك إلاّ رابع المستحيلات ؟ فإنّ اعتراف الحسين ( عليه السلام ) بخلافة يزيد عبارة أخرى عن أنّ الحسين ليس بالحسين « أي إنّ معنى قبوله البيعة ليزيد بيع دين جدّه ، و كل مجده ، و كل شعور شريف للعرب ، و كل حق للمسلمين ، و كل آمال لقومه يبيعها جمعاء برضى يزيد عليه » و هذا محال على الحسين ( عليه السلام ) و على كل أبطال الفضائل ، فإنّ قبوله بيعة يزيد عبارة أخرى عن اعترافه بتساوي الفضيلة و الرذيلة ، و استواء العدل و الظلم ، و اتحاد الحق و الباطل ، و تماثل النور و الظلام ، و أنّ العلم و الجهل مستويان ، و أنّ الخفيف و الثقيل سيان في الميزان ، فهل يسوغ بعد هذا كله سكوته و سكونه ؟!
و قد يزعم البسطاء أنّ الحسين ( عليه السلام ) لو استعمل التقية و صافح يزيد لاتّقى ببيعته شرّ أمية ، و نجا من مكرها ، و صان حرمته ، و حفظ مهجته ، لكن ذلك و هم بعيد . . .
فإن يزيد المتجاهر بالفسوق لا يقاس بمعاوية الداهية المتحفظ ، فبيعة مثل الحسين ( عليه السلام ) لمثل يزيد غير جائزة بظاهر الشريعة ، و لذلك تخلّف عن بيعته سعد بن بن أبي وقاص ، و عبد الرحمن بن أبي بكر ، و عبد الله بن عمرو ، و عبد الله بن الزبير أيضاً فأنكروا على معاوية استخلاف يزيد و امتنعوا عن بيعته حتى فارقوا الحياة ، و كان سيدنا الحسين ( عليه السلام ) أولى بهذا الامتناع و الإنكار .
و أمّا مع غضّ النظر عن التكليف الشرعي و مطالبة وجه غير التمسك بظواهر الكتاب و السنة فنقول : إنّ التحري في الوثائق التاريخية و الكتب المعتبرة يؤدي إلى الاعتقاد بأنّ سيدنا الحسين ( عليه السلام ) كان يعلم بانطواء خصومه على نية التشفّي من قتله ، و قد صرح في مواطن عدّة بأنّ بني أمية غير تاركيه حتى لو كان في جحر ضب لاستخرجوه و قتلوه ، و قال ( عليه السلام ) للعكرمي في بطن عقبة : « ليس يخفى عليّ الرأي و لكنهم لا يدعونني حتى يخرجوا هذه العلقة من جوفي » و أكد ابن زياد نية التشفّي من قتل الحسين ( عليه السلام ) في كتابه لابن سعد قائلاً : « حل بين الحسين و أصحابه و بين الماء فلا يذوقوا منه قطرة ، كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان » . و أعلم يزيد نفسه بما يضمره من الانتقام من آل محمّد كما قال :
لست من خندف إن لم انتقم *** من بني أحمد ما كان فعل
الى غير ذلك من الشواهد التي نستنتج منها ما قصده الأمويون من الانتقام من آل الرسول ( صلى الله عليه و آله ) علم ابن النبي ( صلى الله عليه و آله ) من كل هذا تصميم آل حرب على انتقامهم من آل علي مهما تظاهر هؤلاء بمسالمتهم و مطاوعتهم و مهما تظاهر آل حرب لهم بالأمان و الإيمان ، و قد أكد هذا العلم غدر ابن زياد بابن عمّه مسلم و اعطاؤه الأمان حتى إذا خلع سلاحه قتله شرّ قتلة ، و أجلى من ذلك غدر معاوية بأخيه الحسن ( عليه السلام ) و دسه السم إلى من قتله بعد أن صالحه و صافحه و تنازل له عن خلافته المعقودة له ، فهل ترى ابن النبي ( صلى الله عليه و آله ) بعد ذلك كلّه يعيد الامتحان و يجرب المجرب ؟ كلا ! إذن فالحسن وجد نفسه مقتولاً إذا لم يبايع و مقتولاً إذا بايع ، لكنه إن بايع اشترى مع قتله قتل مجده و قتل آثار جدّه أما إذا لم يبايع فإنّما هي قتلة واحدة تحيا بها آماله ، و شعائر الدين ، و الشرف المؤبد .
البيعة ليزيد
صفا لمعاوية الجو و ملك نحو أربعين سنة ملكاً قلّما يسمح الزمان بمثله ، و هوفي خلال ذلك لا يفتر عن عمله ليله و نهاره فيستكثر أعوانه ، و يعزّز إخوانه و يستحوذ على من يشاء بما أُوتي من مال و دهاء ، و استمال إلى أهوائه أمثال زياد و ابن العاص و المغيرة من الدهاة فمد أطناب حزبه و رواق مأربه ، و انقادت إليه حتى آل هاشم . و لكن الرجل استحب دوام هذا السؤدد لبيته و من يخلفه في إنفاذ نواياه ، إذ عرف أنّ سلطانه وقتي و قسري ـ و ما كان بالقسر لا يدوم ـ فأراد إثباته في بيته مادام حياً ; لأنّه يخشى من موته انقلاب الأمور على بنيه ، لا سيما و ابنه يزيد موضع نقمة الجمهور و في الناس مَن هو أقدم منه و أولى ، فأخذ البيعة ليزيد حال حياته ـ بعد أن ذلل الصعاب و مهّد السبل لغاياته ـ غير أنّ الأُباة أبوا عليه البيعة ليزيد ، و اتخذت عملية معاوية هذه كمناورة يمتحن بها مخالفيه ، ثم أوصى ولده يزيد بأن لا يمس هؤلاء بسوء إذا أبوا عليه البيعة بعد موته إلاّ ابن الزبير ، و السر فيما ارتآه داهية قريش هو أنّ البعض من هؤلاء ضعيف النفس مسبوق بغضاضة .
و أما الحسين السبط فنفس أبيه بين جنبيه و يخشى على البيت الأموي من التعرّض له ، و بما انّه رجل الفضيلة يؤمل فيه أن يستمر على سكوته و سكونه إذا علم برغائبه و مداراته ، و يخشى من قيامه أن يقوم الحجاز و العراقان معه حين لا معاوية لديه ولا ابن العاص .
أمّا ابن الزبير فذو نفسية حربية مع أعدائه و ذو دهاء مع رقبائه و لكنه كأبيه شحيح لا مطمع فيه ، فالعدو لا يأمن منه و الصديق لا يأمل فيه ، فاستهان القضاء عليه من دون توقع محذور في معاداته . و لكن يزيد لم يعمل بهذه الوصيّة إذ أنّه عاش عيشة ترف قضاها في الصيد و السكر و اللهو ، و مثل هذه التربية تسوق صاحبها لعبادة الهوى و الاغترار بسلطان الشهوات ، فلا يحترم قديماً ، و لا يحتشم عظيماً ، و لا يحتفل بالدين ، و لا برغائب الجمهور .
و عليه فما مات معاوية إلاّ و الأوامر تترى من يزيد على ابن عمه الوليد ـ والي المدينة ـ بأخذ البيعة له من الناس عامة و من الحسين و ابن الزبير خاصة فتلقى الوليد بن يزيد بن أبي سفيان أوامره بكل رهبة و احتياط ، و كان يعرف سوء سمعة يزيد كما يعرف حسن شهرة هؤلاء عند المسلمين عامة و عند أهل الحجاز خاصة ، فأدت سياسته إلى إعلام هؤلاء بالأمر بصورة و دية مع المداراة لرغائبهم و حركاتهم قبلما يأخذ البيعة العامة في مسجد النبي ليزيد كخليفة ، فأرسل إلى الحسين و الى ابن الزبير ليحضرا لديه فجاءه الحسين ( عليه السلام ) و معه ثلة من أقربائه ، ولم يدخلوا معه فاستقبله الوليد بالترحاب و مروان 7 جالس متغيّر و تكاد تقرأ ما في قلبه من سحنات وجهه . و ابتدأ الوليد ينعى معاوية فاسترجع الحسين ( عليه السلام ) ثم قال الوليد : « إنّ يزيد استحب اقتراح البيعة فماذا ترى ؟ » فأجابه الحسين : « إنّ البيعة تحسن من مثلي لمثل يزيد أن تكون علانية و بملأ من الناس ، فالأولى أن تؤجلها إلى موعد اجتماع الناس في المسجد » فأجابه الوليد بكل لين و تساهل ، غير أنّ مروان عكر صفو السلم ، و قال : « يا أمير لا تدع حسيناً يخرج من عندك بلا بيعة فيكون أولى منك بالقوة و تكون أولى منه بالضعف ، فاحبسه حتى يبايع أو تضرب عنقه » فوثب عندئذ حسين المجد قائلاً : « يا ابن الزرقاء ! أنت تقتلني أم هو ؟ كذبت والله و لئمت » ثم انصرف هو و بنو هاشم .
كان الوليد و مروان كلاهما يبغيان إخضاع الحسين ( عليه السلام ) ليزيد و لكن ذاك بالسياسة و هذا بالتهديد ، و كأنّ الوليد أراد أن يستميل قلب الحسين و يسترق من لسانه كلمة القبول ـ و لو سرا ـ لعلمه أنّ الحسين رجل الصدق و الثبات ، فلا يعدل عن كلمته و ليس بذي لسانين ، إسرار و جهار ، و لا ذا وجهين محضر و مغيب .
أمّا مروان فكأنّه علم أنّ المسلمين إذا اجتمعوا في مسجد النبي بين قبره و منبره ، و حضر لديهم ريحانة النبي و بنو هاشم وقوف و بنو الأنصار جلوس ، فإن المؤثرات المعنوية و الحسية لا تسفر إلاّ عن البيعة للحسين و خسران صفقة يزيد .
و بالجملة فإنّ مروان نقض على الوليد أمراً كان قد أبرمه ، غير أنّ الخبر لم ينشر خارج المدينة لمراقبة الوالي و فقد وسائل المخابرات . أما الحسين ( عليه السلام ) فقد عرف أنّ مروان سوف يخابر يزيد على عزل الوالي أو يحمل الوالي على الوقيعة بالحسين و آله ، و أنّ يزيد و حزبه ينقادون لإرادات مروان بشخصيته البارزة في الحزب السفياني ، و قديم عدائه للنبي و آله . و قد كان هو و أبوه طريدي رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و معلونين على لسانه 8 فلا بد وأن ينتقم من ريحانة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بالمثل أو يزيد ، فلم يجد الحسين ( عليه السلام ) بدّاً سوى الهجرة الى حرم الله .
- 1. قال الحسن البصري : « أربع خصال في معاوية لو لم تكن إلاّ واحدة منها لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة و فيهم بقايا الصحابة و ذوو الفضيلة ، و استخلافه من بعده سكيراً يلبس الحرير و يضرب بالطنابر ، و ادعاؤه زياداً و قد قال رسول الله : « الولد للفراش و للعاهر الحجر » و قتله حجراً و أصحاب حجر و يا ويلاً له من حجر و أصحاب حجر » ـ الكامل لابن الأثير .
- 2. النصائح الكافية :97 ، و أم خالد كنت كنية اُرينب .
- 3. هاشم و عبد شمس أخوان أبوهما عبد مناف بن قصي .
قيل ولدا توأمين متلاصقين بقطعة لحم في ظهريهما فألجأت الحالة إلى فصلهما بالسيف ، فتطير المتشئمون من ذلك و استدلوا منه على استمرار السيف بين ذراريهما فكان كما قالوه ، و كان الأمويون من بني عبد شمس و الهاشميون من بني عبد المطلب طرفي الخصام في الجاهلية و الإسلام . و كان هاشم اسمه عمرو ـ و يقال له : عمرو العلا ـ و لقب هاشماً لكثرة هشمه الثريد لأضيافه و لزوار البيت الحرام . - 4. كان بنو هاشم صفوة قريش حينماكانت قريش صفوة العرب و وجوه أبناء الجزيره و امتاز بنو هاشم من بين القبائل كلها بالسماحة و الفصاحة و طلاقة الوجه و اللسان و إقراء الضيوف و نجدة المظلوم و حسن السمة و شرف النفس و طيب المولد و طالما اعتدت عليهم قريش بسبب تمسكهم بالحقوق و رعايتهم للعهود و محاماتهم عن الحرم .
- 5. القران الكريم : سورة التوبة ( 9 ) ، الآية : 32 ، الصفحة : 192 .
- 6. القران الكريم : سورة المنافقون ( 63 ) ، الآية : 8 ، الصفحة : 555 .
- 7. هو مروان بن الحكم بن العاص بن أُمية .
ولد في السنة الثانية للهجرة و طرده النبي ( صلى الله عليه وآله ) مع أبيه الى الطائف لأنّ أباه الحكم أسلم مع أبي سفيان يوم الفتح كرهاً و نفاقاً و كان يستهزىء بالنبي ( صلى الله عليه و آله ) إذا غاب عنه و يهجس الى المشركين بأخباره ، فدعا النبي ( صلى الله عليه و آله ) عليه و طرده فأواهما عثمان في خلافته و اتخذ مروان كاتباً عنده ، فنقم المسلمون ذلك عليه لا سيما بعد تزويره كتاباً عن لسان الخليفة يأمر فيه عامل مصر بقتل محمّد بن أبي بكر و رسل المدينة .
و كان مثار الفتن يوم الدار و في الحروب التي أقامها معاوية ضدّ الامام علي ( عليه السلام ) و بايع الإمام نفاقاً كما أسلم أبوه نفاقاً و سرعان ما نكث البيعة و خرج مع طلحة الى حرب البصرة ثم رمى طلحة . و لما أسره الإمام ( عليه السلام ) تشفّع فيه الحسن ( عليه السلام ) فخلا سبيله . و لما تقدم ليجدد بيعته أبعده الإمام قائلاً : « لا حاجة لي في بيعته إنّها كف يهودية ، أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه ، و هو أبو الأكبش الأربعة ، و ستلقى الأمة منهم يوماً أحمر » . ثم هرب مروان الى معاوية و خرج الى صفين ، و بعد صلح معاوية مع سيدنا الحسن ( عليه السلام ) تولى إمارة المدينة فالحجاز كلّه ، و أخذ فدكاً لنفسه ، ثم أساء معاوية الظن فيه فعزله . و بعد موت معاوية بن يزيد تولى الخلافة ثم خنقته زوجته سنة 65 هـ بالشام . - 8. قال الجاحظ في رسالة المفاخر : إنّ مروان بن الحكم كان هو و أبوه ملعونين على لسان النبي ( صلى الله عليه و آله ) و طريديه من المدينة مدة حياته ، ثم في عهد أبي بكر و عمر كلما تشفّع عثمان فيهما و في إيوائهما لم يجد حتى ولي عثمان فآوي مروان إلى المدينة على كره المسلمين ذلك حتى كان هذا الأمر أحد أسباب قيام المسلمين على عثمان و قتله » .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق