
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين..
من الاُمور التي يتجدد فيها البحث على مستويات مختلفة وبأساليب متعددة مسألة التبرّك بالصالحين والأخيار من الاُمة وبالأماكن والمشاهد المقدّسة عند المسلمين، لما يتجدّد حولها أو يتكرر من إثارات أو شبهات تصل في أحيان كثيرة الى درجات ساخنة حتّى تكون مدعاة أحياناً لتمزيق المجتمع المتماسك وبثّ الفرقة بين أبنائه.
فهل التبرّك مسنون، أم مبتدع؟
هل له في القرآن والسنّة ذكر؟
هل له تاريخ بين المسلمين لا سيّما في القرون الاُولى؟
هل له فقه وضوابط؟
كلّ ذلك سيتناوله هذا البحث بإيجاز مناسب ، وبالقدر الكافي من التوفيق..
والله من وراء القصد ، وهو ولي التوفيق.
التبرّك
معاني البركة:
البركة في اللغة: هي من الزيادة والنماء[1].
قال الفراء: في قوله تعالى: (رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت)[2].
البركات: السعادة[3].
وقال أبو منصور الأزهري بعد إيراده هذا القول: وكذلك قوله في التشهد: (السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته)، لأنّ من أسعده الله بما أسعد به النبي(صلى الله عليه وآله)فقد نال السعادة المباركة الدائمة[4].
والتبريك: هو الدعاء للإنسان وغيره بالبركة.
يقال: برّكت عليه تبريكاً، أي قلت: بارك الله عليك[5].
وقال ابن الأثير: وفي حديث اُم سليم (فحنّكه وبرّك عليه): أي دعا له بالبركة[6].
وقال الجوهري: يقال: بارك الله لك وفيك وعليك، وباركك.
وقال تعالى: (أن بورك مَن في النّار)[7].
وقال ابن منظور: بارك الله الشيء، وبارك فيه وعليه: وضع فيه البركة، وطعام بريك كأنّه مبارك[8].
وقال الفيومي: بارك الله تعالى فيه فهو مبارك، والأصل: مبارك فيه[9].
والتبرّك: هو طلب البركة، وهي النماء أو السعادة. والتبرّك بالشيء: طلب البركة عن طريقه.
قال ابن منظور: تبرّكت به: أي تيمّنت به[10].
وقال ابن الأثير: واليُمن: البركة، وقد يُمن فلان على قومه فهو ميمون، إذا صار مباركاً عليهم، وتيمّنت به: تبركت[11].
والتبرّك في مفهومه الاصطلاحي يراد به طلب البركة عن طريق أشياء أو معان ميّزها الله تعالى بمنازل ومقامات خاصة، وخصّها بالتبريك ، وآثرها بعنايته على سواها. كما في مسّ يد النبي(صلى الله عليه وآله) تيمّناً ببركتها ، أو المسح على بعض آثاره الشريفة بعد وفاته.. وهذا هو المراد بالتبرّك ، مدار البحث، وأيّاً كان فإن مصدره إنمّا هو البركة التي خصّ الله تعالى بها أشياء أو أشخاصاً دون آخرين.
البركة في القرآن الكريم
وردت كلمة البركة بألفاظ متعددة في القرآن الكريم للتدليل على اختصاص أشخاص معيّنين وأمكنة وأزمنة معينة بنوع من البركة التي جعلها الله فيها لأسباب اقتضتها حكمة الله تعالى، فمن الأشخاص الذين شملتهم لفظة البركة في القرآن الكريم:
1 ـ النبي نوح(عليه السلام) ومن معه، وذلك في قوله تعالى: (اهبط بسلام منّا وبركات عليك وعلى اُمم ممّن معك...)[12].
2 ـ النبي عيسى(عليه السلام)، وذلك في قوله تعالى: (وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة...)[13].
3 ـ النبي إبراهيم(عليه السلام)، وابنه النبي اسحاق(عليه السلام)، في قوله تعالى: (فلمّا جاءها نودي أن بورك من في النار ومَن حولها)[14].
وقوله تعالى: (وباركنا عليه وعلى إسحاق...)[15].
4 ـ أهل البيت(عليهم السلام)، أو أهل بيت إبراهيم(عليه السلام)، على أقوال، وذلك في قوله تعالى: (رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنّه حميد مجيد)[16].
كما وردت لفظة البركة وما في معناها في القرآن الكريم بخصوص بعض الأماكن والأراضي والبقاع المعيّنة لاختصاصها بقدسية معينة، منها:
1 ـ البيت الحرام في مكة المكرمة، لقوله تعالى: (إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين)[17].
2 ـ الأرض بصورة عامة، حيث جعل البركة ـ وهو الخير ـ في مختلف أرجائها، لقوله تعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها...)[18].
أي جعل فيها الخير الكثير الذي ينتفع به ما على الأرض من نبات وحيوان وإنسان في حياته أنواع الإنتفاعات[19].
وقال الرازي: والبركة: كثرة الخير والخيرات الحاصلة من الأرض[20].
3 ـ المسجد الأقصى وما حوله من بيت المقدس من أرض فلسطين، لقوله تعالى: (... إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله...)[21].
وكذلك في قوله تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها...)[22].
وقوله تعالى: (ونجّيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين...)[23].
4 ـ اليَمَن، لقوله تعالى: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرىً ظاهرة)[24].
5 ـ قوله تعالى: (وقل ربّ أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين)[25].
كما وردت معاني البركة في القرآن الكريم صفة للكتاب العزيز، وذلك في قوله تعالى:
1 ـ (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدّق الذي بين يديه)[26].
2 ـ (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتّبعوه واتّقوا لعلّكم ترحمون)[27].
3 ـ (وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون...)[28].
4 ـ (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبّروا آياته...)[29].
ووردت معاني البركة للدلالة على بعض مخلوقات الله من النباتات وغيرها كما في قوله تعالى:
(كأنّها كوكب دُرّي يوقد من شجرة مباركة زيتونة)[30].
(فلمّا أتاها نُودي من شاطئ الوادِ الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة...)[31].
(ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنّات وحبّ الحصيد)[32].
كما وخصّ الله سبحانه وتعالى بعض الأزمنة بالبركة، كما في قوله تعالى:
(إنّا أنزلناه في ليلة مباركة إنّا كنّا منذرين)[33].
فهذه بعض معاني البركة واستعمالاتها في القرآن الكريم، وأمّا السنّة النبوية المطهّرة، فالأحاديث التي تتضمن البركة ومعانيها كثيرة جداً سوف يأتي بعضها في طيّات المباحث القادمة للدلالة على أن البركة والتبرك أمر ثابت في الشرع.
ولعلّ من أشهرها ماثبت عنه(صلى الله عليه وآله) في صورة الصلاة عليه: «اللهمّ صل على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم .. إنّك حميد مجيد».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق