الإمامة في القرآن الكريم
( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا ) [ المائدة : 3 ] .
تشير القرائن الداخلية في الآية الكريمة مع الشواهد الخارجية التي تمثلت بما جاء بشأنها من أخبار من طرق الشيعة والسنة للتدليل على اختصاصها بغدير خم .
وما دام بحثنا يدور حول الآيات القرآنية في هذا المجال ، ويرتبط بما تستدل به الشيعة من آيات في الإمامة ، فقد رأيت أن أشير لعدد آخر من الآيات مما يستدل به علماء الشيعة ، لكي يتبين على نحو صحيح طبيعة نهجهم في الاستدلال .
من الآيات الأخرى التي لها علاقة بالموضوع هي الآية من سورة المائدة التي جاءت بعد هذه بستين آية تقريبا ، حيث يقول تعالى :
( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) [ المائدة : 67 ] .
قبل الدخول في البحث من الضروري أن أبسط مقدمة تعين على توضيح الفكرة التي ذكرناها في بحث الآية السابقة .
الوضع الخاصّ للآيات التي ترتبط بأهل البيت ( عليهم السلام )
المسألة التي تبدو غامضة حقا هو أن الآيات القرآنية الواردة بشأن أهل بيت النبي ( عليهم السلام ) - أو على الأقل تلك التي تختص من وجهة نظرنا نحن الشيعة بعليّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) - جاءت وهي تنطوي على وضع خاص ، وهو أن هذه الآيات في الوقت الذي تنطوي فيه على دلائل وقرائن تؤكد الفكرة من الآية ذاتها ، نجد وكأن هناك مسعىً لكي تأتي هذه الفكرة المحورية في الآية من خلال أفكار أخرى ، أو تأتي في سياق قضية أخرى ، بحيث تتجاوز تلك الفكرة المحورية والأساسية ويطالها الإغفال .
والسؤال : ما هو السر الذي يكمن وراء هذا المنحى ؟
سيتبين في سياق الإجابة على هذا السؤال الرد أيضا على أولئك الذين ما برحوا يتساءلون : إذا كان الله يريد أن ينص على الإمام علي ( عليه السلام ) كخليفةٍ للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فلماذا لم يصرح باسمه مباشرة في القرآن .
آية التطهير
كمثال للحالة، لدينا آية باسم آية التطهير، حيث يقول تعالى:
( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) [ الأحزاب : 33 ] . فلو بقينا والآية ، فسيكون المفاد واضحا جليا جدا ، إذ تفيد أن الله أراد لكم أهل البيت الطهارة والتنزيه ، وقوله [ يطهركم تطهيرا ] دلالة على نوع خاص من التطهير .
فالطهارة التي ذكرها الله لا تنصرف إلى التطهير العرفي أو الطبي بحيث يكون المراد تطهير أجسام أهل البيت من الأمراض والجراثيم .
لا أريد القول : إن هذه لا تدخل في مصداق التطهير ، ولكن المراد جزما بالتطهير الذي توفرت الآية على ذكره هو في الدرجة الأولى ما ذكره القرآن نفسه بعنوان كونه رجساً ، فالرجس في القرآن يشمل كل ما نهى عنه القرآن ، وجميع ما أحصاه من أشكال الذنوب ، سواء الذنوب الاعتقادية أو الأخلاقية أو العملية ، فهذه جميعها رجس وقذر .
وهذا هو المراد من قولهم إن مفاد الآية يدل على عصمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، أي تنزهّهم عن جميع أشكال الرجس والموبقات .
إذا أراد أحدنا أن يصرف النظر عن كونه شيعيا أو سنيا ، ويفترض نفسه مستشرقا مسيحيا جاء من لجّة العالم المسيحي ، وهو يريد أن يعرف ما جاء به كتاب المسلمين ، عندما ينظر إلى هذه الآية [ آية التطهير ] في القرآن ثم ييمم وجهة صوب التاريخ والسنة وحديث المسلمين ، يجد أن ليس تلك الفرقة التي يطلق عليها : الشيعة ، وتعرف بخصوص الولاء لأهل البيت ( عليهم السلام ) وحدهم ، بل تجتمع حتى كلمة تلك الفرق التي لا ترتبط بولاء خاص لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، في أهم كتبها المعتبرة وما ذكرته بشأن نزول الآية، على أن الآية جاءت في وصف أهل بيت النبي ، وأنها نزلت في سياق تلك الواقعة المعروفة التي اجتمع فيها رسول الله ( صلى الله علية وآله ) مع الإمام علي وفاطمة الزهراء والإمام الحسن والإمام الحسين ( عليهم السلام ) .
ويروي أهل السنة أن الآية حين نزلت سألت أم سلمة إحدى زوجات النبي [ يكن الشيعة نظرة احترام جليلة إلى هذه السيدة ، وهي عندهم من أجل زوجات النبي بعد خديجة ولها عند أهل السنة مكانة محترمة أيضا ، إذ تعد في جلالة مركزها عندهم بعد خديجة وعائشة ] رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيما إذا كانت من جملة أهل البيت ( عليهم السلام ) أم لا ، فأجابها النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا ، ولكنك على خير ) .
ومصادر هذا الحديث لا تقتصر على كتاب أو اثنين ، بل هي كثيرة في روايات أهل السنة ، ولكن هذه الآية [ على وضوحها ذاتيا ] تأتي في سياق آيات أخرى ، تتحدث قبلها وبعدها عن نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فهي مسبوقة بقوله تعالى : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ ) [ الأحزاب : 32 ] .
والآية ليست بشأن منح المزايا ، بل هي بصدد بيان أن الذنب الذي يصدر من إحدى زوجات النبي ( صلى الله عليه وآله ) تستحق عليه العقاب مضاعفاً ، لأن الذنب منها ذنبان ، ذنب اجتراح الخطيئة ، وذنب هتك حرمة زوجها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وعلى المنوال نفسه يكون ثوابها على ما يصدر منها من طاعات مضاعفاً .
وهذا النسق يجري على السادة [ ذرية الرسول ( صلى الله عليه وآله ] أيضا ، إذ يقع العقاب عليهم ضعفا في اجتراح الذنوب والموبقات ، ويـأتي الثواب ضعفا أيضا على ما يصدر منهم من طاعات وخيرات .
على سبيل المثال ، لو أن سيدا من السادة تناول المشروب ، فهو يكون بذلك قد اجترح خطيئتين ، خطيئة تناول المشروب ، ثم خطيئة هتكه لحرمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، كونه منسوبا إليه ، ومن ذريته .
ولا ريب أن مثل هذه الممارسة العلنية من ابن النبي ضد النبي ( صلى الله عليه وآله ) تكون منشأ لأثر خاص في نفوس الآخرين .
نعود إلى الآيات لنرى أن الضمير في جميعها مؤنث [ لستن كأحد من النساء إن أتقيتن ] وهو يدل على أن المخاطب فيها هُنّ زوجات النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
بيدَ أن الذي يحصل بعد عدة آيات ، هو ظهور الضمير المذكر في النص ، حين نصل إلى قوله تعالى [ إنما يريد الله ليذهب عنكم [ لا : عنكن ] الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ] ، ثم يعود بعد ذلك لصيغة التأنيث مجدداً .
ولما كان القرآن لا يفعل أي شيء جزافا، فإن ما حصل يتمثل بما يلي :
أولا :
لقد تم الحديث هنا عن "أهل البيت" في حين كان السياق قبل ذلك منصرفاً إلى نساء النبي [ يا نساء النبي ] . وبذلك تبدل عنوان الخطاب من "نساء النبي" إلى" أهل بيت النبي" .
ثانيا :
تغير الضمير تبعا لذلك من التأنيث إلى التذكير ، ولم يحصل ذلك عبثا أو اعتباطا ، ولم يأت على سبيل اللغو ، بل لا بد أن تكون هناك قضية أخرى يريد أن يتحدث عنها النص ، غير تلك التي تضمنتها الآيات السابقة .
لقد ظلّلت الآيات قبل آية التطهير وبعدها معاني التكليف والأمر لنساء النبي( صلى الله عليه وآله ) ، وقد جاءت وهي محملة بروح التهديد والخوف والرجاء .
ففي ما يدل به على الأمر ، نقرأ قوله تعالى لهن : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية ... ) فالنص يأمر نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويتهددهن ، ويضعهن- ضمناً - بين حال الخوف والرجاء ، فيرجيهن بالثواب على فعل الخير ، ويخوفهن بالعقاب من فعل الشر .
أما مفاد آية التطهير فهو غير مفاد الآيات التي سبقتها والتي تلتها ، وآية التطهير جاءت تتجاوز المدح لتتحدث عن التنزيه عن الذنوب والمعاصي ، والتطهير من الموبقات .
فالمخاطب في آية التطهير هم ( أهل البيت ( عليهم السلام ) ) أما في الآيات التي سبقتها وتلتها فالمخاطب ( نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ) .
والضمير يختلف تبعا لذلك ، فقد جاء بصيغة التذكير في آية التطهير ، فيما جاء بصيغة التأنيث في بقية السياق .
بيدَ أن الذي حصل مع ذلك أن هذه الآية التي جاء مفادها مختلفا عما قبلها وبعدها ، دُرِجت ضمن تلك الآيات وقطع بها سياقها ، تماما كالجملة المعترضة التي ينطق بها متحدث ثم يعود لسياق موضوعه .
وفي الواقع هذا هو سر ما جاء في رواياتنا عن أهل البيت ( عليهم السلام ) من تأكيد كبير على أن آيات القرآن يمكن أن تتحدث في بدايتها عن شيء ، وفي وسطها عن شيء آخر ، وفي آخرها عن شيء [ فكرة أو موضوع ] ثالث .
وما التأكيد الصادر عنهم في أهمية تفسير القرآن ، إلا لأمثال هذه الغايات .
وفي الواقع ، لا يقتصر الأمر على رواياتنا وما قاله أئمتنا من أن قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) يفترق في المخاطب والمضمون عن بقية ما قبله وما بعده من السياق ، وأن الآية تتعلق بأولئك [ أهل البيت ] الذين ضمتهم الواقعة المعروفة ، وإنما ينقل ذلك أيضا أهل السنة في رواياتهم .
مثال آخر :
تتكرر الحال نفسها في الآية الكريمة : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) على نحوٍ أشدّ يثير العجب أكثر ، فالسياق ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ ) [ المائدة : 1 ] ثم يتحول لاستثناء موارد منها المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، ليصير فجأة إلى قوله تعالى :
( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا ) [ المائدة : 3 ] ثم يعود السياق إلى ما كان عليه قبل ذلك [ أي قوله تعالى [ فمن اضطُر في مخمصة غير متجانفٍ لإثم فإن الله غفور رحيم ] ثم قوله تعالى في الآية التي تليها [ يسألونك ماذا أحل لهم ] .
والذي يتضح أن الذي نحن بصدده [ اليوم يئس الذين ... ] لا يتسق مع ما قبله وما بعده ، وذلك في دلالة على أنه أُدرج في طيّ موضوع آخر ومرّر من خلاله .
والآية التي نعنى ببحثها في جلسة هذا اليوم جاءت تخضع للمنوال نفسه يعني قوله تعالى : [ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك .. ] ، فقد جاءت بطريقة بحيث إذا رفعناها من وسط الآيات الأخرى ، لا يختل السياق ولا ينقطع ، تماماً كما هو عليه الحال أيضا مع [ اليوم أكملت ] فإذا رفعنا هذه أيضا لا يصاب السياق فيما قبلها وبعدها بالانقطاع ، ولا يختل ارتباط النص وتواصله .
فالنصوص موضع الدراسة جاءت وسط آيات أخرى ، بحيث لا يمكن أن يقال أنها تتمة لما قبلها ، أو مقدمة لما بعدها ، بل هي تعبير عن موضوع آخر .
والذي يشهد لذلك ما تحكيه الآية [ النصوص المعنية ] نفسها من قرائن وما يحف بها من روايات ينقلها الشيعة والسنة معاً .
ومع انطواء هذه الآيات على خصوصية في المعنى يختلف عن السياق فإنها دُرِجت في سياق آيات لا شأن لها بها ، إذن لابد أن يكون هناك سرّ وراء هذا العمل ، فما هو يا ترى السّر وراء هذه المسألة ؟
سرّ المسألة
السرّ الذي يكمن وراء هذا المنحى يمكن أن نستشفه من خلال ما أشارت إليه الآية القرآنية نفسها ، كما جاءت إشارة إليه في روايات أئمتنا ( عليهم السلام ) .
ومضمونه أنه ليس هناك من بين أحكام الإسلام وتعاليمه ما هو أقل حظا في التنفيذ من قضية أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
وضآلة هذه المسألة في التنفيذ تعود للعصبية الراسخة في عمق نفسية العرب ، وما تقود إليه من استعداد ضئيل جدا للتفاعل مع هذه الفكرة [ ولاية أهل البيت ( عليهم السلام ) وإمامتهم ] .
فمع أن النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) بلَغَهُ الأمرُ - من السماء - بتنصيب الإمام عليّ ( عليه السلام ) ، إلا أنه كان دائماً يخشى المنافقين الذين كان القرآن يذكرهم باستمرار ، ويخاف رد فعلهم وقولهم بحسب الاصطلاح الشائع : إنه يمهِّد - من خلال هذا الاستخلاف والتنصيب – لعائلته ، مع أن نهج النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الحياة يقوم على أساس أن لا يختص بشيء لنفسه ، وكانت أخلاقه وأحكام الإسلام يقضيان أن يمتنع بشدة عن كل ما من شأنه أن يمنحه المزايا ويميزه عن الآخرين .
وقد كان هذا الالتزام عاملا كبيراً جدا في التوفيق الذي ناله النبي الأكرم .
لقد كان إبلاغ الأمة بتنصيب الإمام علي ( عليه السلام ] خليفة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) هو أمر الله جل وعلا ، ومع ذلك كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعرف أنه إذا فعل ذلك فإن عدة من ضعفاء الإيمان ستنبري لتفسير ذلك على أنه مزية اختصَّ بها النبي نفسه [ لم يكن هذا حدسا أو مجرد تحليل ، بل هو ما قيل بالفعل ، ومثاله صاحب آية :
( سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ) [ المعارج : 1-2 ] وقصتها أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد أن نادى في الناس واجتمعوا إليه في غدير خم ، أخذ ( صلى الله عليه وآله ) بيد علي ( عليه السلام ) وقال :
( من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ) ، شاع الخبر وطار في البلاد ، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري ، فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على ناقة له حتى أتى الأبطح ، فنزل عن ناقته وأناخها وعقلها ، ثم أتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو في ملأ من أصحابه ، فقال : يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا ، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا ، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبعي ابن عمّك فضّلته علينا وقلت : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ، فهذا شيء منك أم من الله ؟ .
أجاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( والذي لا إله إلا هو إنَّ هذا من الله ) .
فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته ، وهو يقول : اللهم إن كان ما يقوله حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذابٍ إليم ، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر ، فسقط على هامته وخرج من دبره ، فقتله ، وأنزل الله فيه الآية أعلاه . [ ينظر : الكشف والتبيان ، ص 213 ] .
وعندما نعود إلى قوله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم ) نجده مسبوقا بقوله :
( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ) فقد عرف الكافرون أن لا جدوى من مواجهة الإسلام بعد أن توطّدَ : ( فلا تخشوهم ) بل ( اخشون ) أي تخافوني ، لأنه إذا أصاب داخلكم الخراب فسأسلب نعمتي ، نعمة الإسلام منكم جريا وراء سنة إبدال النعم عن أي قوم غيروا ما بأنفسهم .
إن [ واخشون ] هنا كناية على أنكم يجب أن تخافوا على أنفسكم من أنفسكم ، وعليه فإن مصدر الخوف هو من الداخل ، ولا خوف من جهة الخارج .
من جهة أخرى نعرف أن هذه الآية في سورة "المائدة" وهذه السورة هي آخر ما نزل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، أي إن الآية هذه نزلت في الشهرين أو الثلاثة الأخيرة من عمر النبي ، حين كان الإسلام قد توطد وبسط قدرته .
في الآية السابقة تكررت نفس الحال ، فقد كان منبثق الخوف من داخل المسلمين أنفسهم ، ولم يكن له مصدر من الخارج . يقول تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ) .
وفي الواقع لا نجد في القرآن آية تدفع النبي وتشجعه لإنجاز عمل غير هذه ومثلها يشبه فعلك حينما تريد أن تشجع شخصا لفعل معين ، وهو يخشاه فيقدم رجلاً ويؤخر أخرى .
هذه الآية تأمر النبي بإبلاغ ما أنزل إليه ، وقد جاءت في سياق يتضمن تهديده من جهة ، وتشجيعه ومواساته من جهة أخرى ، وفحوى التهديد أنك أن لم تبلغ ما أنزل إليك فإن جهودك في تبليغ الرسالة تضيع هدرا ، هي تواسيه بعدم خوف الناس وخشيتهم ( والله يعصمك من الناس ) .
وحين نعود إلى آية : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم ) فإن الشيء الطبيعي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لا ينبغي أن يخشى الكفار منذ البداية ، ولكن الذي يظهر من الآية الثانية : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) أن النبي كان قلقا يخشى [ المنافقين ] ، ومصدر هذا القلق ومنبثقة هو الداخل الإسلامي نفسه .
لا يغنيني الآن حال تلك الجماعة في الوسط الإسلامي ، التي كانت ترفض خلافة الإمام علي ( عليه السلام ) وفيما إذا كانت كافرة باطنا أم لا ، إنما تعنيني المحصلة ، حيث لم يكن أولئك على استعداد لتقبل خلافة الإمام علي ( عليه السلام ) .
الشواهد التاريخية
عندما نعود إلى مسار الحوادث التاريخية ونُطلّ على الواقع من منظور علم اجتماع المسلمين ، نجده يحكي هذه المحصلة وينطق بها [ عدم الاستعداد لتقبل خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، لذلك نجد عمر يصرح بأنهم لم يختاروا عليا للخلافة "حيطة على الإسلام" كما يقول ، لأن القوم لا ينقادون إليه ولا يقبلونه ، سأل عمرُ بنَ عباس : يا بن عباس ، أتدري ما منع الناس منكم ؟ ، قال : لا يا أمير المؤمنين ، ردَّ عمر : لكني أدري ، قال ابن عباس : ما هو يا أمير المؤمنين ؟ ، قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتجحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ووفقت وأصابت .
فقال ابن عباس : أيليط أمير المؤمنين عني غصة فتسمع ؟ ، قال : قل ما تشاء . قال ابن عباس : أما قول أمير المؤمنين إن قريشا كرهت ، فإن الله تعالى قال لقوم : ( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) : فأما قولك إنا كنا نجحف ، فلو جحفنا بالخلافة لجحفنا بالقرابة ، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي قال الله في حقه :
( وإنك لعلى خلق عظيم ) ، قال له : ( واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين ) .
وأما قولك إن قريشا اختارت ، فإن الله تعالى يقول : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) ، وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار ، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت .
فقال عمر : على رسلك يا ابن عباس ، أبت قلوبكم إلا بغضاً لقريش لا يزول ، وحقدا عليها لا يحول ، فقال ابن عباس : مهلاً يا أمير المؤمنين ، لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش ، فإن قلوبهم من قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي طهره الله وزكاة ، وهم أهل البيت الذين قال الله لهم : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) ، وأما قولك حقدا ، فكيف لا يحقد من غصب شيئة ويراه في يد غيره .
وذلك إلى آخر الحوار بينهما الذي ذكره من المؤرخين الطبري وابن الأثير وصاحب شرح نهج البلاغة. [ ينظر مثلا : الكامل في التاريخ ج 3 : ص 62 ، وشرح نهج البلاغة : ج 3 ، ص 106 ] .
لقد كانت هذه الحالة انعكاسا لواقع يعيشه المجتمع الإسلامي ، ويعبر عنها بأشكال مختلفة ، فالقرآن عبر عنها بأسلوبه ، وعبر عنها عمر بطريقته ، كما عبر عنها بعضهم بما ذهبوا إليه من أن عليا ( عليه السلام ) وترهم في كبرائهم ، حيث قتل كثيراً من رؤوسهم في الحروب الإسلامية ، فضمرت له العرب ذلك بما تنطوي عليه نفسيتهم من أخذٍ بالثأر ، ولم تنس من قتل من آبائهم وإخوانهم ، ثم [ ردّت عليه ] في طبيعة موقفها الرافض لخلافته ، إذ لم تره مناسبا لها .
وبهذا الكلام تمسّك جماعة من أهل السنة ليصطنعوا منه ذريعة في موقفهم فهم وإن سلموا له بمقام الفضيلة والأرجحية على غيره ، إلا أنهم ذهبوا للقول بأن له أعداءً كثراً [ وهذا ما منع عنه الخلافة ] .
نتبين مما مر أن هناك ضرباً من ضروب القلق كان سائداً منذ زمن النبي ( صلى الله عليه وآله ) يخشى حالة التمرد على هذا الأمر [ إمامة أهل البيت ( عليهم السلام ) وخلافتهم ] .
وربما كان السر وراء أسلوب القرآن في ذكره هذه الآيات من خلال القرائن والدلائل يتمثل في أن أي إنسان سويّ خالٍ من الغرض ، يستطيع أن يفهم المراد .
ويبدو أن القرآن لم يُرِدْ أن يعبر عن مراده بصيغة تسمح لأُولئك الذي يبغون التمرد على القرآن ، أن يكتسب تمردهم صيغة التمرد المباشر في مقابل القرآن والإسلام .
لقد جاء هذا الأسلوب القرآني وكأنه يريد أن يقول : على تلك الجماعة التي سوف تتمرد في كل حال أن لا يكتسب تمردها صيغة الرد المباشر على القرآن بصراحة سافرة ، وإنما لها - على أقل تقدير - أن تصطنع ذريعة لموقفها ، وتسدل عليه ستاراً .
هذا التقدير هو الذي يعلل لنا مجيء آية التطهير وسط تلك الآيات ، ولكن بمقدور أي إنسان عاقل متدبر أن يفهم أن آية التطهير هي شيء آخر - يختلف عن السياق الذي تقع فيه بقية الآيات - .
الشيء نفسه يقال بالنسبة لآية : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ، والكلام نفسه ينطبق على آية : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) .
وآية : ( إنما وليكم الله ) .
ثم آيات أخرى تثير الفكر وتدفع الإنسان لكي يفهم أن هناك أمرا ما ، وعندما يستعين الإنسان بالقول المتواترة يثبت لديه ذلك الأمر .
من هذه الآيات ، قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) [ المائدة : 55 ] .
تنطوي الآية على تعبير عجيب ، ذلك أن إعطاء الزكاة في حال الركوع لا يعبر عن ممارسة عامة تذكر كأصل كلي ، وإنما يفيد السياق أن الآية تشير إلى واقعة معينة ، قال الفخر الرازي في تفسيره : روى عكرمة عن ابن عباس أنها في علي .
كما روي عن عبد الله بن سلام ، قال : لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله ، أنا رأيت عليا تصدق بخاتمة على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه .
وروي عن أبي ذر قال : صليت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوماً صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء ، فقال : اللهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وما أعطاني أحد شيئا ، وعليٌّ كان راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمني وكان فيها خاتم ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم ، فرأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذلك ، فقال :
( اللهم إن أخي موسى سألك فقال : ( رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري ) - إلى قوله ( وأشركه في أمري ) - فأنزلتَ قرآنا : ( سنشدّ عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا ) ، اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك ، فاشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واجعل لي وزيرا من أهلي علياً أشدد به أزري ) .
قال أبو ذر : فو الله ما أتم ( صلى الله عليه وآله ) هذه الكلمة حتى نزل جبرائيل ( عليه السلام ) فقال : ( يا محمد أقرأ : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنو الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) ) .
[ ينظر : التفسير الكبير ، الفخر الرازي ، ج 12 : ص 26 ] .
القرآن هنا لم يصرّح [ بالواقعة واسم صاحبها ] خشية التمرّد المشار إليه آنفا ، ذلك أن التمرد في مواجهة التصريح لو وقع سينظر إليه من قبل الصديق والعدوّ على أنه تمرد ضدّ القرآن ، وهو في الوقت نفسه استخدم الكناية ، وعبر عن المراد بصيغة يفهم من خلالها إي إنسان لا يشوبه الغرض أن وراء الآية أمرا يشير إلى قضية بعينها .
فقوله تعالى : ( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لا يعبر عن وضع عادي ، وإنما يُشير إلى واقعة استثنائية حدثت ، والسؤال عندئذ : ما هي هذه الواقعة ؟ .
نجد في هذا المجال أن كلمة الشيعة والسنة اجتمعت على أن الآية نزلت بشأن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، نقرأ في الدر المنثور في ظلال الآية الكريمة : أخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن عمار بن ياسر ، قال : وقف بعلي سائل وهو راكع في صلاة تطوع ، فنزع خاتمه بأعطاه السائل ، فأتي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هذه الآية :
( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) ، فقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، على أصحابه ثم قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من والاه وعاد من عاده ، [ ينظر : الدر المنثور ، السيوطي : ج 2 ، ص 293 ] .
الإمامة عند الشيعة مفهوم يناظر النبوّة
آية في القرآن عجيبة ، تقع في سياق مجموعة هذه الآيات عن الإمامة ، وهذه الآية ترتبط بشخص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، بل هي تتصل بمسألة الإمامة نفسها ، وفي نطاق المعنى الذي عرضناه ، ونعود للإشارة إليه مجدداً .
ذكرنا - فيما سبق - أنه خطأ كبير ، ذلك الذي وقع به المتكلمون المسلمون منذ القديم ، وهم يطرحون الإمامة في صيغة السؤال التالي : ما هي شرائط الإمامة ؟ ، فهذه الصيغة في الطرح تستبطن فرضية فحواها أن أهل السنة يقبلون الإمامة كما نقبلها نحن الشيعة ، وغاية ما هنالك أننا نختلف معهم في شرائطها ، إذ نقول نحن بالعصمة والنص شرطين في الإمام ، ولا يعتقد الطرف الثاني بهما .
وواقع الحال أن الإمامة التي نعتقد بها نحن الشيعة لا يعتقد بها السنة أساسا ، وما يعتقد به أهل السنة باسم الإمامة هو تعبير عن الشأن الدنيوي في الإمامة ، الذي يُعدّ أحد شؤونها .
مثال ذلك : هو ما نلتقي به في مضمار النبوة ، فأحد شؤون النبي أنه كان حاكما للمسلمين ، بيدَ أن ذلك لا يعني أن تكون النبوة مساوية للحكم والحكومة ، النبوة بحدّ ذاتها حقيقة تنطوي على آلاف القضايا ، ولكن من شؤون النبي - كما أسلفنا - أنه بوجوده لا يحتاج المسلمون إلى حاكم آخر ، لأنه هو الحاكم .
ما يذهب إليه أهل السنّة أن الإمامة تعني الحكومة [ الإمامة تساوي الحكومة ] وأن الإمام يعني الحاكم الذي يوجد بين المسلمين ، وهو من الحيثية شخصٌ من المسلمين يجب عليهم انتخابه لممارسة الحكم .
وبهذه الصيغة لم يتعدَّ أهل السنّة في الإمامة أكثر من حدّ الحكومة .
أمّا الإمامة عند الشيعة فهي تأتي تالي تلو النبوّة ، فأُولو العزم من الأنبياء هم الذين جمعوا الإمامة إلى النبوة ، وكثير من الأنبياء لم يكونوا أئمة ، أما أولو العزم فقد بلغوا رتبة الإمامة في آخر المطاف .
ومحل الشاهد في الكلام : أننا لا نسأل عن الحاكم من يكون في حال وجود النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ذلك أن للنبي جنبة فوق بشرية [ في صلته بالسماء وانفتاح الغيب عليه ] ، وكذلك لا معنى للسؤال عن شخص آخر يتولى زمام الحكم بوجود الإمام ( عليه السلام ) .
إنما يمتلك الحديث عن هذا الشخص - مبرراته الموضوعية - في حال عدم وجود الإمام وذلك بافتراض عدم وجوده مطلقا ، أو لغيابه كما هو الحال في زماننا .
ما يجب أن نحذر منه هو خلط مسألة الإمامة بمسألة الحكومة ، ثم أن نتساءل على أساس ذلك الخلط : ما هو موقف أهل السنة ، وما هو موقفنا ؟ ، فالإمامة مسألة أخرى غير الحكم ، وهي عند الشيعة ظاهرة ومفهوم يناظر النبوة في أعلى درجاتها .
نخلص مما مرّ في الفارق بين الشيعة والسنة، إلى أننا نعتقد بالإمامة ، والسنة لا يقولون بها من الأساس ، وليس الأمر أنهم يعتقدون بها ويختلفون معنا في شروط الإمام، بأن يضعوا له شروطا غير التي نعتقد بها .
الإمامة في ذريّة إبراهيم ( عليه السلام )
الآية التي نريد بحثها تتصل بمفهوم الإمامة بالمعنى الذي يعتقد به الشيعة ، إن ما يذهب إليه الشيعة في هذه الآية أنها تفيد وجود حقيقة أخرى باسم الإمامة ، وهذه الحقيقة لم ينحصر وجودها بعد رحيل نبي الإسلام ( صلى الله عليه وآله ) ، بل هي تعود إلى زمن ظهور الأنبياء ، وهي باقية في ذرية إبراهيم ماكثة فيهم إلى يوم القيامة .
والآية التي نعنيها قوله تعالى في سورة البقرة : ( وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) [ البقرة : 124 ] .
إبراهيم ( عليه السلام ) مبتلىً
لقد تحدث القرآن عن الابتلاءات التي نزلت بإبراهيم ( عليه السلام ) ، وأشار لثباته في مواجهة نمرود والخط النمرودي ، وكيف أنه أبدى استعداده كي يحرق بالنار في الثبات على المواجهة ، ثم أشار إلى بقية ما وقع له .
من ذلك ، الأمر المدهش الذي نزل به ، والذي لا طاقة لأحدٍ به ، إلا الإنسان الذي يسلّم لأمر الله تماما ويعبده مطلقا .
لقد رزق ( عليه السلام ) وهو في شيخوخته - من زوجته [ هاجر ] التي كانت عجوزا في السبعين أو الثمانين - ولد كان هو الأول جاء بعد انقطاع الذرية .
وفي هذه اللحظة يأتيه الأمر أن يغادر الشام وسورية ويذهب تلقاء الحجاز ، حيث عليه أن يترك زوجته ووليده وحيدين هناك ، ويغادرهما .
لم يكن هذا الأمر يتسق مع أي منطق سوى منطق التسليم المطلق فقد كان ذلك أمر الله [ كان يحس ذلك عن طريق الوحي ] فهو إذن مُطاع .
يقول تعالى - فيما حكاه عن إبراهيم ( عليه السلام ) : ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) [ إبراهيم : 37 ] .
كان إبراهيم يعرف عن طريق الوحي الإلهي مآل الأمر ونهايته ، ولكنه خرج من هذا الاختبار على أحسن ما يكون .
ذبح الابن
المسألة الثانية التي جاءت أمضى من الأولى هي الأمر بذبح ولده ، فقد جاء الأمر أن يذبح ولده بيده في منطقة منى ، التي نحظى فيها الآن بإحياء ذكرى ذلك التسليم المطلق الذي أبداه إبراهيم ، بتقديمنا للأضاحي والقرابين .
بعد أن تكرّر عليه الأمر في عالم الرؤيا مرتين وثلاث ، أمسى على يقين أنه إزاء الوحي الإلهي ، لذلك فاتح ولده بالقضية ، فما كان من الابن إلا أن قال بتسليم ودون نقاش : ( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ) [ الصافات : 102 ] .
يأتي القرآن ليجسد اللوحة على نحو مدهش عجيب ، وهو يقول : ( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) [ الصافات : 103 ] ، أي حينما أمضيا الأمر ، بحيث لم يشك إبراهيم أنه فاعلٌ وأنه ذابح ولده لا محال ، وأيقن إسماعيل أنه مذبوح .
لما فعلا ذلك بمنتهى الاطمئنان واليقين جاءهما النداء : ( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَد صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) [ الصافات : 104-105 ] .
والمعنى أن هدفنا لم يكن ذبح إسماعيل وفصل رأسه عن جسده ، ولم يصدر القرآن بأمر ينهى فيه إبراهيم عن الذبح ، بل قال [ قد صدقت الرؤيا ] ، أي : بتنفيذك عمليا ما هو مطلوب ، لأن الهدف لم يكن - كما ذكرنا - ذبح إسماعيل ، بل ظهور الإسلام والتسليم منك أنت الأب ومن ولدك ، وهذا ما كان .
النص القرآني واضح في أن إبراهيم ( عليه السلام ) وُهِبَ الذرية على كبر ، فهذه زوجه عندما جاءت الملائكة تبشره بالغلام ، تقول : ( أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا ) ، ردت الملائكة : ( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) [ هود : 72-73 ] .
لقد جاءت الذرية إبراهيم إذن وهو شيخ، وعندما جاءته الذرية كان نبيا، ولما كانت الآيات التي جاءت في القرآن عن إبراهيم ( عليه السلام ) كثيرة ، فالمستفاد منها أنه وُهب الذرية وهو على كبر سن في السبعين أو الثمانين ، بعد أن كان نبياً .
ثم بقي حيّاً بعد ذلك عقدا من السنين أو عقدين حتى كبر إسحاق وإسماعيل ، وقد بلغ إسماعيل من العمر مبلغاً شارك أباه إبراهيم ( عليه السلام ) في بناء الكعبة .
يشير قوله تعالى : ( وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) [ البقرة : 124 ] .
إلا أن الإمامة وهبت لإبراهيم بعد أن أتم ما نزل به من ابتلاءات ، والسؤال: متى كان ذلك ، وبأي زمان تتصل الآية ؟ هل هي محددة بأوائل عمر إبراهيم ؟ الشيء المؤكد أنها لا شأن لها بفترة ما قبل النبوة من حياة إبراهيم ، لأنها تتحدث عن الوحي ، وهو شأن من شؤون النبوة .
هي إذن تتصل بمرحلة النبوة ، ولكن هل كان ذلك أوائل عهد إبراهيم بالنبوة ؟ كلا ، بل هي ترتبط بأواخر عهد النبوة ، بدليلين ، الأول : أنها تتحدث صراحة عن أن ذلك حصل بعد الابتلاءات ، وما أبتلى به إبراهيم حصل جميعه في عهد نبوته ، وقد نزل به أهمها وهو في أواخر عمره ، الثاني : تذكر الآية في سياقها الذرية في قوله : [ ومن ذريتي ] أي كان له حين الآية ذرية [ والذرية جاءته آخر عمره وهو شيخ بنص القرآن ] .
الآية تقول لإبراهيم : إنا نريد أن نهبك آخر عمرك شأنا آخر ، ومنصبا مستقلاً [ غير النبوة ، لأنه كان نبيا ] يعبر عنه قوله تعالى : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) .
الشيء الواضح أن إبراهيم كان قبل الهبة الجديدة نبيا وكان رسولاً ، طوى المراحل جميعا إلا واحدة ، لم يكن ليبلغها إلا بعد أن يتم جميع الابتلاءات .
في الحديث الشريف : إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، وإن الله أتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا ، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا ، وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما ، فلما جمع له الأشياء قال: ( إني جاعلك للناس إماما ) ، قال : فمن عِظمها في عين إبراهيم ، قال: ( ومن ذريتي ) . [ الكافي ج : 1 ص 175 ، كتاب الحجّة ، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة ، الحديث 2 ] .
ألا يشير ذلك كله إلى أن في منطق القرآن حقيقةً أُخرى أسمها الإمامة ؟ والآن ما معنى الإمامة؟
الإمامة عهد الله
تعني الإمامة أن يبلغ الإنسان حدّ ما يُصطلح عليه بالإنسان الكامل ، وهذا الإنسان يتحول بتمام وجوده إلى مقتدىً للآخرين ، وعندما جُعلت الإمامة لإبراهيم ، فكَّر بذريّته فوراً ، فجاءه الجواب : ( لا ينال عهدي الظالمين ) .
هذا النصُّ أطلق على الإمامة عنوان ( عهد الله ) ، من هنا ما ذهبنا إليه نحن - الشيعة - من أن الإمامة التي نعتقد بها هي أمرٌ يرتبط بالله ، ولهذا ترى القرآن ينسبه إليه سبحانه ، فيقول ( عهدي ) ، فهي ليست عهدا من عهود الناس .
وعندما نعرف أن الإمامة هي غير الحكومة ، فلا نعجب إذن أن تكون أمرا مرتبطا بالله .
هناك من يسأل قائلا : هل الحكومة أمر يرتبط بالله أم بالناس ؟ ، نقول في الجواب : إن هذه الحكومة التي نتحدث عنها في هذا المجال هي غير الإمامة .
الإمامة عهد الله ، وعهد الله لن يكون في الظالمين من ذرية إبراهيم .
لم يُجِب القرآن على سؤال إبراهيم [ ومن ذريتي ] بالنفي المطلق ، كما لم يأت بالتأييد المطلق ، بل فكّك بين فئتين من الذرية ، ولأنه استبعد الظالمين منهم من دائرة هذا العهد ، فهو يبقى إذن في غير الظالمين .
وهذه الآية تدل على بقاء الإمامة في ذرية إبراهيم أجمالاً .
وآية أخرى
ثم في القرآن آية أخرى في هذا المضمار ، هي حول إبراهيم أيضاً ، يقول فيها تعالى : ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) [ الزخرف : 28 ] .
وفي هذه الآية دلالة على أن الإمامة حقيقة باقية في نسل إبراهيم ( عليه السلام ) .
مَن هو الظالم ؟
تأتي في سياق الآية مسألة الظالمين ، ويستدل الأئمة [ عليهم السلام ] على الظالمين بهذه الآية دائماً . والسؤال : من هو المقصود بالظالم ؟
الظالم في القرآن هو كل إنسان يلحق الظلم بنفسه أو بالآخرين .
أما في عرف الناس فإنا نطلق صفة الظالم دائماً على الإنسان الذي يتجاوز على الآخرين ويتعدى على حقوقهم ، وذلك بخلاف القرآن الذي يعمم المفهوم ليشمل الذي يتجاوز على نفسه والذي يتجاوز على الآخرين أيضا .
ثم في القرآن آيات كثيرة تتناول الظلم الذي ينزل بالنفس .
ينقل العلامة الطباطبائي [ صاحب تفسير الميزان ] كلاما عن أحد أساتذته حول ما سأله إبراهيم [ عليه السلام ] لذريته ، أن مآل هذه الذرية من حيث صلاحها وفسادها ينتهي إلى الفرضيات التالية :
الأولى: أن نفترض أن هذه الذرية ظالمة على الدوام من أول عمرها إلى أخره .
الثانية : أن نفترض أنها كانت ظالمة في أول عمرها ثم آبت إلى الصلاح آخر العمر .
الثالثة : أن تكون صالحة أول عمرها ، ثم آلت إلى الظلم بعد ذلك .
الرابعة : أنها لم تكن ظالمة في أي وقت من الأوقات .
ثم يقول : من المحال أن يطلب إبراهيم ( عليه السلام ) الإمامة - وهي بهذا الشأن العظيم ، حيث وهبت إليه بعد النبوة والرسالة - لمن كان ظالما من ذريته من أول أمره حتى آخر حياته ، كما من المحال أن يسألها لمن كان من ذريته صالحاً في مبدأ حياته ثم آل إلى الظلم آخر عمره .
يبقى إبراهيم ( عليه السلام ) إذا طلب الإمامة لذريته طلبها للصالحين منهم ، وهؤلاء على قسمين ، الأوّل: لازَم الصلاح من أول حياته وبقيّ على ذلك حتى آخر عمره ، والثاني : من كان ظالما في مبدأ حياته ثم آب إلى الصلاح بعد ذلك .
عندما ينحصر مدار سؤال إبراهيم ( عليه السلام ) في هاتين الفئتين من ذريته ، فإن الطلب يشمل من كان ظالما فيما مضى وتلوث بالظلم في عهدٍ ما ، ثم أصبح صالحا الآن .
ولكن القرآن يقول : ( لا ينال عهدي الظالمين ) أي ينفي أن ينال الإمامة من كانت له سابقة في ظلم .
ولما كان القرآن ينفي - الإمامة - عمَّن هو صالح الآن ، وكان ظالما فيما مضى ، فالشيء المؤكد أن لا يدخل في إطار السؤال الظالم بالفعل سواء أكان ظالما على طول الخط ، أو كان صالحا ثم آل إلى الظلم فعلاً .
وبهذا ينفي القرآن الإمامة عن كل إنسان كان في سابقته ظلم ، وبنص الإمام الرضا ( عليه السلام ) : فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة [ الكافي : ج 1 ، ص199 من حديث شامل للإمام علي بن موسى الرضا في الإمامة ] .
وهذا ما تستدل به الشيعة من استحالة أن تكون الإمامة فيمن أمضى عهدا من عمره في الشرك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق